45ـ مع الصحابة وآل البيت: المقارنة بين العلم والمال

45ـ مع الصحابة وآل البيت: المقارنة بين العلم والمال

 

مع الصحابة و آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

45ـ المقارنة بين العلم والمال

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ من القُرآنِ العَظِيمِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾. هذهِ أَوَّلُ دَعْوَةٍ تُعَرِّفُ النَّاسَ قَدْرَ العِلْمِ، وَتُنَوِّهُ إِلى قِيمَتِهِ، وَتُعْلِنُ الحَرْبَ على الأُمِّيَّةِ، وَتُبَدِّدُ ظُلُمَاتِ الجَهْلِ، وَتَجْعَلُ اللَّبِنَةَ الأُولَى في بِنَاءِ شَخْصِيَّةِ المُسْلِمِ، أَنْ يَكُونَ قَارِئَاً مُتَعَلِّمَاً.

وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى أَعْلَى قَدْرَ العُلَمَاءِ، فَقَالَ تعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يَرِثُوا دِينَارَاً وَلَا دِرْهَمَاً، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» رواه الإمام أحمد عن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وروى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا عَابِدٌ، وَالْآخَرُ عَالِمٌ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ».

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد تَمَيَّزَتْ أُمَّةُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَبْرَ التَّارِيخِ عَن سَائِرِ الأُمَمِ، بِأَنَّهَا أُمَّةُ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ، فالعِلْمُ الشَّرْعِيُّ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ خَشْيَةً للهِ عزَّ جلَّ ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. وَطَلَبُهُ عِبَادَةٌ، يَقُولُ قَتَادَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: بَابٌ من العِلْمِ يَحْفَظُهُ الرَّجُلُ لِصَلَاحِ نَفْسِهِ، وَصَلَاحِ مَن بَعْدَهُ أَفْضَلُ من عِبَادَةِ حَوْلٍ؛ وَمُذَاكَرَتُهُ تَسْبِيحٌ، وَهُوَ الأَنِيسُ في الوَحْشَةِ، والصَّاحِبُ في الغُرْبَةِ، بالعِلْمِ والعَمَلِ يَبْلُغُ العَبدُ العِزَّ والفَخَارَ، وَيَنَالُ الدَّرَجَاتِ العُلا في دَارِ القَرَارِ، بالعِلْمِ الشَّرْعِيِّ يُطَاعُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ وَيُعْبَدُ، وَبِهِ يُتَّقَى وَيُمَجَّدُ.

وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابَاً مِن الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ».

وروى الحاكم عَن حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العِلْمِ خَيْرٌ من فَضْلِ العِبَادَةِ».

فَلَوْلَا العِلْمُ مَا سَعِدَتْ نُفُوسٌ   ***   وَلَا عُرِفَ الحَلَالُ ولا الحَرَامُ

فَـبِـالعِـلْمِ النَّجَاةُ من المَخَازِي   ***   وَبِـالجَـهْـلِ المَذَلَّـةُ والرَّغَـامُ

المُقَارَنَةُ بَيْنَ العِلْمِ والمَالِ:

أيُّها الإخوة الكرام: عَقَدَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مُقَارَنَةً بَيْنَ العِلْمِ والمَالِ،  فَقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ في وَصِيَّتِهِ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ: العِلْمُ خَيْرٌ من المَالِ، العِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالِ، العِلْمُ يَزْكُو مع العَمَلِ، والمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، العِلْمُ حَاكِمٌ، والمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، وَصَنْعَةُ المَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ، وَمَحَبَّةُ العَالِمِ دِينٌ يُدَانُ بِهَا، العِلْمُ يُكْسِبُ العَالِمَ الطَّاعَةَ في حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، مَاتَ خُزَّانُ المَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، والعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُم مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُم في القُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. اهـ.

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد فَرَّقَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بَيْنَ نِعْمَةِ العِلْمِ، وَنِعْمَةِ المَالِ الذي يَجْمَعُهُ الإِنْسَانُ لِذَاتِهِ، ولا يَعْرِفُ للهِ تعالى فِيهِ حَقَّاً، وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَاً، وَلا يَتَوَجَّهُ فِيهِ بالطَّاعَاتِ وَفْقَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، بِعِدَّةِ فَوَارِقَ:

الفَارِقُ الأَوَّلُ: العِلْمُ يَحْرُسُ صَاحِبَهُ، وَصَاحِبُ المَالِ يَحْرُسُ المَالَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد جَعَلَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ الفَارِقَ الأَوَّلَ بَيْنَ العِلْمِ والمَالِ، هُوَ أَنَّ العِلْمَ يَحْرُسُ صَاحِبَهُ وَيَقِيهِ من المَهَالِكِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، فَقَالَ: (العِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالِ).

العِلْمُ يَقِي صَاحِبَهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فلا يُوقِعُهُ في سَخَطِ اللهِ تعالى في جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَمُعَامَلاتِهِ، وَيَكُونُ على بَصِيرَةٍ من أَمْرِهِ، وَبِهِ يَتَفَاءَلُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَتُصْبِحُ جَمِيعُ مَآسِيهَا وَنَكَبَاتِهَا بَرْدَاً وَسَلامَاً عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ بالعِلْمِ عَلِمَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.

بالعِلْمِ عَلِمَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرَاً مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ جَبَلُ أُحُدٍ ـ أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ـ ذَهَبَاً أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ، حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ» رواه الإمام أحمد عَن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَعَلِمَ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبَاً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرَاً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أيُّها الإخوة الكرام: العِلْمُ الشَّرْعِيُّ يَقِي صَاحِبَهُ في الآخِرَةِ، حَيْثُ يَقُودُهُ العِلْمُ إلى رِضْوَانِ اللهِ تعالى وَجَنَّتِهِ، وَيُجَنِّبُهُ طَرِيقَ النَّارِ، وَيَكُونُ مَعَ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم من النَّبِيِّينَ، والصِّدِّيقِينَ، والشُّهَدَاءِ، والصَّالِحِينَ، بَلْ يَجْعَلُهُ شَافِعَاً لِكَثِيرٍ من خَلْقِ اللهِ تعالى، روى ابن ماجه عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ».

العِلْمُ يَقِي صَاحِبَهُ من الشَّيْطَانِ، وَبِهِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، روى الإمام أحمد عَن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ».

أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا المَالُ الذي يَكُونُ حِجَابَاً بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، ولا يَعْرِفُ فِيهِ العَبْدُ حَقَّاً للهِ تعالى، وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَاً، فَهُوَ الذي يَحْرُسُ مَالَهُ، وَكَمْ يُلازِمُهُ الهَمُّ في جَمْعِهِ، وفي حِفْظِهِ، وَعِنْدَ فِرَاقِهِ، فَهُوَ خَائِفٌ عَلَيْهِ ليْلَهُ ونَهَارَهُ، يُلازِمُهُ الهَمُّ والقَلَقُ والحُزْنُ، وَإِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ كَارِثَةٌ صَارَتْ حَيَاتُهُ جَحِيمَاً، وَشَقَاءً، وَضَنْكَاً، هذا في حيَاتِهِ الدُّنْيَا.

أَمَّا في الآخِرَةِ فَيَكُونُ المَالُ عَلَيْهِ حَسْرَةً، قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعَاً فَاسْلُكُوهُ﴾.

الفَارِقُ الثَّانِي: العِلْمُ يَنْمُو بالعَمَلِ، والمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ:

أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا الفَارِقُ الثَّانِي بَيْنَ العِلْمِ والعَمَلِ، هُوَ أَنَّ العِلْمَ يَنْمُو بالعَمَلِ، وَبِهِ يُحْفَظُ، قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (العِلْمُ يَزْكُو مع العَمَلِ)، والمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ. قَالَ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾. وَيَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ: مَن عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

يَقُولُ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَا سَمِعْتُ حَدِيثَاً عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلا عَمِلْتُ بِهِ. اهـ. وَانْظُرْ كَيْفَ وَرَّثَهُ اللهُ تعالى العِلْمَ.

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: يَا حَمَلَةَ العِلْمِ، اِعْمَلُوا بِهِ، فَإِنَّمَا العَالِمُ مَن عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَوَافَقَ عَمَلُهُ عِلْمَهُ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ العِلْمَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم، تُخَالِفُ سَرِيرَتُهُم عَلَانِيَتَهُم، وَيُخَالِفُ عَمَلُهُم عِلْمَهُم، يَجْلِسُونَ حِلَقَاً، فَيُبَاهِي بَعْضُهُم بَعْضَاً، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُم لَيَغْضَبُ على جَلِيسِهِ حِينَ يَجْلِسُ على غَيْرِهِ وَيَدَعُهُ، أُولَئِكَ لا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُم في مَجَالِسِهِم تِلْكَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.

أيُّها الإخوة الكرام: اِتَّفَقَ جَمِيعُ العُلَمَاءِ على أَنَّ مَن عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ تعالى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وإلا لا قَدَّرَ اللهُ تعالى، اِنْطَبَقَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى في حَقِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ واللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.

أَمَّا بالنِّسْبَةِ للمَالِ الذي يَكُونُ عِنْدَ الجَاهِلِ الذي لا يَعْرِفُ للهِ تعالى فِيهِ حَقَّاً، الذي آتَاهُ اللهُ تعالى المَالَ وَحَرَمَهُ العِلْمَ، فَإِنَّهُ يَرَى المَالَ إِذَا أَنْفَقَ مِنْهُ شَيْئَاً فَإِنَّ النَّفَقَةَ تُنْقِصُهُ، لِذَا تَرَاهُ مَانِعَاً للزَّكَاةِ والصَّدَقَةِ، عل خِلافِ مَن آتَاهُ اللهُ تعالى العِلْمَ والمَالَ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ بِأَنَّهُ إِذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً من المَالِ زَادَ المَالُ، ولا تُنْقِصُهُ الصَّدَقَةُ.

الفَارِقُ الثَّالِثُ: العِلْمُ حَاكِمٌ، والمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ:

أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا الفَارِقُ الثَّالِثُ بَيْنَ العِلْمِ والمَالِ، فَهُوَ أَنَّ (العِلْمَ حَاكِمٌ، والمَالَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ)، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أيُّها الإخوة الكرام: العِلْمُ الشَّرْعِيُّ حَاكِمٌ، بِهِ تُنَظَّمُ شُؤُونُ الحَيَاةِ، وَتَكُونُ الحَيَاةُ مُسْتَقِرَّةً، أَمَّا المَالُ فَهُوَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ في الاسْتِيرَادِ والتَّصْدِيرِ، المَالُ يَكُونُ خَاضِعَاً وَمَحْكُومَاً عَلَيْهِ من قِبَلِ الأَنْظِمَةِ الحَاكِمَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ شَرْعِيَّةً أَو غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ.

الفَارِقُ الرَّابِعُ: أَثَرُ العِلْمِ يَبْقَى، وَأَثَرُ المَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ:

أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا الفَارِقُ الرَّابِعُ بَيْنَ العِلْمِ والمَالِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (وَصَنْعَةُ المَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ، وَمَحَبَّةُ العَالِمِ دِينٌ يُدَانُ بِهَا). وهذا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ وَمَعْلُومٌ، إِذْ إِنَّ كُلَّ العَلاقَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ التي تَقُومُ على المَصَالِحِ المَالِيَّةِ المُشْتَرَكَةِ تَزُولُ بِزَوَالِ المَالِ، لِأَنَّهُ هُوَ الذي عَقَدَ تِلْكَ العَلاقَاتِ بَيْنَ الأَفْرَادِ، فَإِذَا زَالَ زَالَتْ تِلْكَ العَلاقَاتُ.

أَمَّا العَلاقَاتُ التي تَقُومُ على أَسَاسِ تَبَادُلِ العِلْمِ، فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾. فَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ المُتَّصِلُ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ المُنْقَطِعُ.

الفَارِقُ الخَامِسُ: العِلْمُ الشَّرْعِيُّ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ طَاعَةً وَوَلاءً بَعْدَ مَوْتِهِ، والمَالُ على العَكْسِ من ذَلِكَ:

أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا الفَارِقُ الخَامِسُ بَيْنَ العِلْمِ والمَالِ، فَهُوَ أَنَّ العِلْمَ الشَّرْعِيَّ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ وَلاءً وَطَاعَةً بَعْدَ مَوْتِهِ، والمَالَ على العَكْسِ من ذَلِكَ، يَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ : (العِلْمُ يُكْسِبُ العَالِمَ الطَّاعَةَ في حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، مَاتَ خُزَّانُ المَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، والعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُم مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُم في القُلُوبِ مَوْجُودَةٌ).

أيُّها الإخوة الكرام: العِلْمُ أَوْرَثَ العُلَمَاءَ طَاعَةً لَهُم في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَوْرَثَهُم ذِكْرَاً حَسَنَاً بَعْدَ مَوْتِهِم، حَتَّى يَرِثَ اللهُ تعالى الأَرْضَ وَمَن عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَوْ فَقَدَ النَّاسُ صُوَرَهُم وَأَشْكَالَهُم، إلا أَنَّهُم لَمْ يَفْقِدُوا عِلْمَهُم.

أَمَّا المَالُ الذي كَانَ حِجَابَاً بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، وَجَمَعَهُ الإِنْسَانُ بِدُونِ عِلْمٍ، فَصَاحِبُهُ مَيْتٌ وَهُوَ حَيٌّ، لا يُذْكَرُ، وَإِذَا ذُكِرَ لا يُذْكَرُ بِخَيْرٍ، وَإِذَا مَاتَ انْدَرَسَ اسْمُهُ وَذِكْرُهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: عَلَيَّ وَعَلَيْكُم بالعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الحَنِيفِ، عَلَيَّ وَعَلَيْكُم بالإِخْلاصِ في طَلَبِ العِلْمِ الشَّرِيفِ، لَعَلَّنَا أَنْ نَنَالَ رِضَا اللهِ تعالى، فالعِلْمُ مَكَانَتُهُ سَامِيَةٌ، وَمَنْزِلَتُهُ عَالِيَةٌ، فَهُوَ الذي يُرَبِّي الأَجْيَالَ، وَيَصْنَعُ الرِّجَالَ، وَعَلَيْهُ تُعْقَدُ الآمَالُ، وَتَحْتَ إِشْرَافِهِ تَخَرَّجَ العُلَمَاءُ.

العِلْمُ هُوَ الذي يُهَذِّبُ الأَخْلاقَ، وَيَرْفَعُ الذِّكْرَ، وَيَجْعَلُ للعَالِمِ لِسَانَ صِدْقٍ في الآخَرِينَ، وَيَكْفِي العِلْمَ شَرَفَاً قَوْلُ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً﴾.

نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا عِلْمَاً نَافِعَاً، وَرْزَقَاً حَلالاً وَاسِعَاً، وَشِفَاءً من كُلِّ دَاءٍ، وَحِفْظَاً من كُلِّ فِتْنَةٍ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

 

الخميس: 28/ صفر الخير /1437هـ، الموافق: 10/كانون الأول/ 2015م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم

13-03-2020 1395 مشاهدة
170ـ موقف الفاروق رضي الله عنه من شارب الخمر

نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... المزيد

 13-03-2020
 
 1395
13-02-2020 1956 مشاهدة
169ـ هكذا كان أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

الحِرْصُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالأَوْلَادِ مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الأَبَوَيْنِ مَسْؤُولَانِ عَنِ الذُّرِّيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ ... المزيد

 13-02-2020
 
 1956
23-01-2020 2589 مشاهدة
168ـ إسلام أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في ... المزيد

 23-01-2020
 
 2589
16-01-2020 990 مشاهدة
167ـ الزبير نموذج للغني المسلم

لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ ... المزيد

 16-01-2020
 
 990
09-01-2020 1327 مشاهدة
166ـ حب سيدنا الزبير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ حُبَّ اللهِ تعالى، وَحُبَّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِيَانِ للإِنْسَانِ الكَمَالَ وَالشَّرَفَ وَالعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ وَالمَكَانَةَ، بَلْ يُعْطِيَانِ الُمؤْمِنَ القُدْرَةَ ... المزيد

 09-01-2020
 
 1327
03-01-2020 1023 مشاهدة
165ـ صاحب رسول الله منذ أن بعث

زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعُدَّةُ الزَّمَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى الشَّبَابُ النَّاشِؤُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، الذينَ تَكَادُ أَنْ لَا تَعْرِفَ لَهُمْ زَلَّةً، أَو تُعْهَدَ عَنْهُمْ صَبْوَةٌ، الذينَ يَتَسَابَقُونَ في مَيَادِينِ ... المزيد

 03-01-2020
 
 1023

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412981469
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :