437ـ خطبة الجمعة: يا ويح من جعل نفسه للمسلمين خصيماً

437ـ خطبة الجمعة: يا ويح من جعل نفسه للمسلمين خصيماً

 

 437ـ خطبة الجمعة: يا ويح من جعل نفسه للمسلمين خصيماً

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، قَد أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، شَهْرُ شَعْبَانَ، فِيهِ تَتَنَزَّلُ الرَّحْمَةُ من الرَّحْمَنِ المَنَّانِ، وقَد عَظَّمَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِصَالِحِ العَمَلِ، واجْتَهَدَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من غَيْرِ تَعَبٍ ولا كَلَلٍ، فَصَامَ النَّهَارَ، وقَامَ اللَّيْلَ، روى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامَاً فِي شَعْبَانَ.

شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنهُ كَثِيرٌ من النَّاسِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لقد عَظَّمَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ بَعْضَ اللَّيَالِيَ قَدْرَاً، ونَشَرَ فِيهَا رَحْمَتَهُ على خَلْقِهِ نَشْرَاً، من هذهِ اللَّيَالِي لَيَالِي شَهْرِ شَعْبَانَ، هذا الشَّهْرُ العَظِيمُ الذي يَغْفُلُ عَنهُ كَثِيرٌ من النَّاسِ.

روى الإمام أحمد عَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَصُومُ الْأَيَّامَ يَسْرُدُ حَتَّى يُقَالَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ الْأَيَّامَ حَتَّى لَا يَكَادَ أَنْ يَصُومَ إِلَّا يَوْمَيْنِ مِن الْجُمُعَةِ إِنْ كَانَا فِي صِيَامِهِ، وَإِلَّا صَامَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِن الشُّهُورِ مَا يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تَصُومُ لَا تَكَادُ أَنْ تُفْطِرَ، وَتُفْطِرَ حَتَّى لَا تَكَادَ أَنْ تَصُومَ إِلَّا يَوْمَيْنِ إِنْ دَخَلَا فِي صِيَامِكَ، وَإِلَّا صُمْتَهُمَا.

قَالَ: «أَيُّ يَوْمَيْنِ؟».

قَالَ: قُلْتُ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمُ الْخَمِيسِ.

قَالَ: «ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».

قَالَ: قُلْتُ: وَلَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِن الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ.

قَالَ: «ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».

يَا عِبَادَ اللهِ، هَل عَلِمْتُمْ سَبَبَ تَخْصِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لهذا الشَّهْرِ بالصِّيَامِ؟ لأَنَّهُ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللهِ تعالى، فَطُوبَى لِمَنْ رُفِعَ عَمَلُهُ وكَانَ سَبَبَاً لِبَيَاضِ وَجْهِهِ يَومَ القِيَامَةِ، وكَانَ سَبَبَاً لِشَفَاعَتِهِ عِنْدَ اللهِ عزَّ وجلَّ.

لِيَسْأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ، مَا هوَ عَمَلِي الذي يُرْفَعُ إلى اللهِ تعالى في هذا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكَ؟ هَل أَقْوَالُنَا وأَفْعَالُنَا التي تُرْفَعُ إلى اللهِ تعالى لَنَا أَمْ عَلَينَا؟

شَهْرٌ بَيْنَ شَهْرَيْنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، نَحْنُ بَيْنَ شَهْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ، بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ، فَهَل نَغْتَنِمُ هذا الشَّهْرَ المُبَارَكَ إِنْ فَاتَنَا الخَيْرُ في شَهْرِ رَجَبَ المُحَرَّمِ؟

مَضَى رَجَـبٌ ومَـا أَحْـسَنْتَ فِيهِ   ***    وهـذا شَـهْرُ شَعْبَانَ المُـبَارَكْ

فَيَا مَن ضَـيَّعَ الأَوْقَـاتَ جَـهْلَاً   ***   بِحُرْمَتِهَا أَفِـقْ واحْـذَرْ بَوَارَكْ

فَسَوْفَ تُفَـارِقُ اللَّـذَّاتِ قَـسْرَاً   ***   وَيُخْلِي المَوْتُ كُرْهَاً مِنكَ دَارَكْ

تَدَارَكْ مَا اسْتَطَعْتَ من الخَطَايَا   ***   بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ وَاجْعَـلْ مَـدَارَكْ

عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ من جَحِيمٍ    ***   فَخَيْرُ ذَوِي الجَرَائِمِ مَن تَدَارَكْ

يَا وَيْحَ مَن جَعَلَ نَفْسَهُ للمُسْلِمِينَ خَصِيمَاً:

يَا عِبَادَ اللهِ، في هذا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ يَطَّلِعُ فِيهِ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ على خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إلا لِصِنْفَيْنِ من النَّاسِ، لِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ، وَلِمَنْ كَانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّاسِ شَحْنَاءُ.

روى ابن ماجه عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ».

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا وَيْحَ مَن جَعَلَ نَفْسَهُ للمُسْلِمِينَ خَصِيمَاً، تَاللهِ لقد ارْتَكَبَ إِثْمَاً عَظِيمَاً، واقْتَرَفَ جُرْمَاً جَسِيمَاً، فَمَا أَعْظَمَ شَحْنَاءَ القُلُوبِ، يَومَ قَرَنَهَا عَلَّامُ الغُيُوبِ بالشِّرْكِ الذي هوَ أَشْنَعُ الذُّنُوبِ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، هَل تَنْتَهِي الأُمَّةُ اليَومَ من هذهِ الخُصُومَاتِ؟ هَل تَنْتَهِي من هذهِ الحَرْبِ؟ هَل تَنْتَهِي من هذا الدَّمَارِ؟ هَل تَنْتَهِي من هذا التَّمَزُّقِ والتَّشَرْذُمِ؟ هَل تَنْتَهِي من هذا التَّفْسِيقِ والتَّكْفِيرِ لِبَعْضِهَا البَعْضِ؟ هَل تَنْتَهِي من هذهِ الشَّحْنَاءِ التي حَلَقَتْ دِينَ كَثِيرٍ من النَّاسِ؟ هَل تَنْتَهِي من التَّحْرِيضِ على سَفْكِ الدِّمَاءِ، وتَرْوِيعِ الآمِنِينَ؟ فالأَعْمَالُ تُرْفَعُ إلى اللهِ تعالى؛ فَطُوبَى لِعَبْدٍ رُفِعَ إلى اللهِ تعالى عَمَلُهُ إِحْسَانَاً، وخَابَ وخَسِرَ مَن رُفِعَ إلى اللهِ تعالى عَمَلُهُ إِسَاءَةً وعُدْوَانَاً.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 4/شعبان /1435هـ، الموافق: 22/أيار / 2015م

 2015-05-22
 1504
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

28-03-2024 69 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 69
21-03-2024 635 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 635
14-03-2024 973 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 973
08-03-2024 863 مشاهدة
903ـ خطبة الجمعة: استقبل شهر رمضان بالأمور الآتية

هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد

 08-03-2024
 
 863
09-02-2024 2557 مشاهدة
902ـ خطبة الجمعة: حاله صلى الله عليه وسلم في شعبان

إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد

 09-02-2024
 
 2557
02-02-2024 2262 مشاهدة
901ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾

لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد

 02-02-2024
 
 2262

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3154
المكتبة الصوتية 4763
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412002366
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :