3ـ عهود رمضانية: العهد الثالث: الإصلاح بين الناس

3ـ عهود رمضانية: العهد الثالث: الإصلاح بين الناس

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فالعهد الذي نقطعه على أنفسنا في هذا اليوم المبارك إن شاء الله: الإصلاح بين الناس.

أيها الإخوة: داء هذا العصر الفساد والإفساد، ويا حبذا لو بقي الإنسان الفاسد فاسداً، ولكنه ينتقل من الفساد إلى الإفساد، وأنت ـ ولا أتألى على الله ـ أراك صالحاً، ولكن ما ينبغي أن تبقى صالحاً فقط، وإنما ينبغي أن تكون مصلحاً، لأنك إذا بقيت صالحاً بدون إصلاح فبموتك لن يكون هناك إنسان صالح ليكون مصلحاً. فكن حريصاً أن تجعل لنفسك ذكراً بعد موتك بأن تكون مصلحاً، فإن الذكر للإنسان بعد موته عمر ثان، فإذا كنت مصلحاً ومت فأنت مطمئن تقول: يا رب كنت صالحاً ومصلحاً وورثت هذا لمن بعدي. أما إذا كنت صالحاً دون أن تكون مصلحاً فإن خيرك ذاتي فيك، وينبغي على الإنسان أن يكون خيره متعدياً للآخرين، فمن تمام الخير نقل الخير للغير.

أيها الإخوة: العبد الصالح ليس شرطاً أن يكون صمام أمان في الدنيا، فقد يأتي المقت والغضب من الله ـ والعياذ بالله ـ وأول ما يبدأ بالعبد الصالح. جاء في الأثر: أن الله عز وجل أمر الملائكة بخسف قرية. فقالت الملائكة: يا رب إن فيها عبداً صالحاً. فقال: به فابدؤوا. فلا يكفي أن تكون صالحاً، بل ينبغي أن تكون صالحاً ومصلحاً، قال تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} لم يقل: صالحون. فإذا أردت أن تكون صمام أمان فكن عبداً صالحاً ومصلحاً.

لذلك لننظر إلى قول الله عز وجل: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} فإذا لم تكن مصلحاً فلا خير فيك أيها الإنسان. لذلك ربنا عز وجل أمر بنص القرآن الكريم: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} وترى إنساناً يختلف مع صاحبة بيته، ويريد بعض الناس التدخل فيقول: يا أخي لا تتدخل! الله عز وجل يأمرك وأنت تنهى؟! أين عقولنا أيها الإخوة؟ {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} فمهمة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام الإصلاح بين الناس، ما جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلا ليصلح بين الناس، ولذلك هناك من يقسم يميناً ألا يفعل معروفاً، يقول لك: حلفت يميناً ألا أتدخل، يقول الله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} فإذا حلفت يميناً بالله فألغ هذا اليمين، وقال بعض الفقهاء: من أقسم يميناً بالله ألا يفعل معروفاً فليفعل المعروف، وقال بعض الفقهاء: لا كفارة عليه، لأنك ما وجدت أيها العبد إلا لتكون صالحاً ومصلحاً.

انظروا أيها الإخوة ماذا يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما يروي الإمام أبو داود والترمذي رضي الله عنهما عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: (صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة). فمن أفسد بين اثنين فهذا الإفساد هو الحالقة التي تحلق الدين والعياذ بالله تعالى.

كلنا يعلم بأن الله عز وجل يبغض الكذب ويحب الصدق، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالصدق فإن الصدق إلى البر... وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور) فالصدق يحبه الله، والكذب يبغضه الله عز وجل، إلا في موضعين: الصدق في الإفساد لا يحبه الله، والكذب في الإصلاح يحبه الله. فأحياناً رجل ينقل كلاماً وهو صادق فيه، ولكنَّ نقلَ هذا الكلام يفسد ذات البين، فهذا الصدق لا يحبه الله عز وجل. والكذب في الإصلاح يحبه الله عز وجل، لأن الله عز وجل يريد منا أن نكون صالحين ومصلحين.

اسمع يا عبد الله، واسمعي يا أمة الله، واجبنا في المجتمع الإصلاح، وليس واجبنا الإفساد، فمن أفسد بين اثنين أفسد الله عليه جميع عباداته، ومن أصلح بين اثنين إن شاء الله يصلح له جميع طاعاته.

روى الإمام الحاكم في المستدرك عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه صلى الله عليه وسلم، فقال له سيدنا عمر رضي الله عنه: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال صلى الله عليه وسلم: (رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب، خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تبارك وتعالى للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ ـ رجل مسرف على نفسه عنده حسنات، لكنه يسيء إلى الناس بلسانه، ويفسد بين الناس، ويأكل حقوق الناس ويظلمهم ـ قال: يا رب، فليحمل من أوزاري، قال: وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال: إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم).

إذا أردت أن يغفر الله لك فالبطاقة في يدك، يقول ربنا جل وعلا: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}، إذا كنت تريد مغفرة الله عز وجل يوم القيامة فاعف واصفح، وأما إذا كنت عنيداً فأي مغفرة تطمع بها من الله عز وجل؟ الله عز وجل يقول لك: {وليعفوا وليصحفوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} كلنا يقول: بلى، فلم لا تسامح؟ قال: عنيد، إذا فاسمع قول الله تعالى: {إنه كان لآياتنا عنيداً * سأرهقه صعوداً}.

لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم. فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يا رب، أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ أو لأي صديق هذا؟ أو لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن. قال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب، فإني قد عفوت عنه. قال الله عز وجل: فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين).

فهل تنتظر أن يتدخل أحد للإصلاح بينك وبين زوجتك، أم تصلح بنفسك؟ الله عز وجل يصلح بين المسلمين، وأنت لم لا تصلح بين المسلمين، ولم تجلس في مكانك حتى يأتي فلان ويتدخل في الإصلاح، ويقول: لأجل خاطري، وتقول له: لأجل خاطرك سأصالح؟!

تدخلتُ مرة في إصلاح بين اثنين، فرضي الرجل وقال: كرامة لك سأذهب، فقلت له: أنا لن أذهب. قال: لم؟ قلت: لأنك الآن عندما تقول لي: كرامة لك سأذهب ستجعل يداً لك عليّ، وفي يوم من الأيام تقول لي: أنا ذهبت لأجلك فلي حاجة عندك فاقضها لي، وأنا لا أستطيع أن أقضي لك حاجة، فإذا أردت أن تذهب فاذهب من أجل الله، يقول الله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} لأنك إن عفوت من أجل الله فالله قادر على قضاء حوائجك، أما إذا عفوت من أجل زيد أو عمرو فإن زيداً أو عمرو لا يستطيعان أن يقدما لك نفعاً أو ضراً.

وختاماً يقول سيدنا الفضيل رضي الله عنه لهذا الرجل الذي يريد حقه، ولا يريد أن يعفو ويصفح، ويريد أن يعامل بالعدل لا بالفضل، يقول: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً فقل له: يا أخي اعف عنه، فإن العفو أقرب للتقوى. فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمرني الله {وجزاء سيئة سيئة مثلها}؛ فقل له: فإن كنت تحسن تنتصر مثلاً بمثل، وإلا فارجع. فإذا أردت العدل فليكن ميزانك دقيقاً، وانتقم مثلاً بمثل، قال تعالى: {العين بالعين والسن بالسن}، لأنك إذا أخذت زيادة أصبحت ظالماً، لذلك خاطب ربنا عز وجل سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}.

قال رجل لآخر: احكم بيننا، فقال: أتريد بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ قال: وما هو خير من العدل؟ قال: الفضل.

لذلك فالعهد الذي نقطعه على أنفسنا في هذا اليوم أن نكون إن شاء الله صالحين ومصلحين. والحمد لله رب العالمين.

 

 2007-09-29
 6040
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  دروس رمضانية

14-03-2024 309 مشاهدة
1-مواساة لأصحاب الأعذار في رمضان

يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد

 14-03-2024
 
 309
26-05-2022 690 مشاهدة
28ـ غزوة بدر وحسرة المشركين

فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد

 26-05-2022
 
 690
26-05-2022 512 مشاهدة
27ـ غزوة بدر درس عملي لكل ظالم ومظلوم

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد

 26-05-2022
 
 512
29-04-2022 384 مشاهدة
26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 384
29-04-2022 813 مشاهدة
25ـ هنيئًا لكم أيها الصائمون القائمون

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد

 29-04-2022
 
 813
29-04-2022 908 مشاهدة
24ـ أقوام عاشوا عيش السعداء

الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 908

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412396932
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :