63ـ نحو أسرة مسلمة: وقفة مع حديث قاتل مئة نفس

63ـ نحو أسرة مسلمة: وقفة مع حديث قاتل مئة نفس

 

مقدمة الدرس:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد ذكرنا في الدروس الماضية بأنه يجب على الإنسان المسلم أن يتعلَّم العلم الصحيح حتى لا يقع في اليأس ولا يقع في الغرور، فكم من أناس عاشوا في اليأس من رحمة الله عز وجل لعظيم فعالهم، بسبب جهلهم في مدى رحمة الله عز وجل؟

وكم من أناس عاشوا في الغرور فقاموا وقعدوا في المعاصي والمخالفات الشرعية، وهم آمنون من مكر الله تعالى بسبب جهلهم في مكر الله عز وجل.

ما معنى مكر الله؟

مكر الله تعالى صفة حقيقية على ما يليق بجلال الله وكماله، واحذر من أن تشبه مكر الله بمكر الإنسان، فهذه صفة نقص في الإنسان، وتلك صفة كمال لله عز وجل.

فالله تعالى يقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِين}. فالمكر: هو احتيال في خُفية، قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون}. ويقال المكر: هو الخديعة والاحتيال، وهذا وصف الإنسان.

أما المكر الذي وصف الله تعالى به نفسه فيعني المجازاة للماكرين من الناس برسل الله وأوليائه وشرعه، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه تبارك وتعالى أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة، وهذا نظير قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}. فالثانية ليست بسيئة في الحقيقة ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام.

وكذلك هذا نظير قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْه}. فالمعتدي الأول ظالم والثاني ليس بظالم، لذلك لا نقول عن الثاني ظالم.

لذلك نقول عن الإنسان ماكر، ولا يجوز أن نقول بأن الله ماكر بشكل مطلق، كما لا يقال عن المعتدي الثاني معتد.

الأمن من مكر الله كبيرة من الكبائر:

نرجع إلى موضوعنا، هناك أناس أمنوا مكر الله تعالى وأمنوا عذابه مع إقامتهم على المعاصي والمنكرات، بسبب جهلهم دين الله تعالى، وبسبب سوء فهمٍ لآيات وأحاديث الرحمة.

كيف يأمن العبد العاصي مكرَ الله تعالى وعذابه اعتماداً منه على فهمه بعض الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الرحمة، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي أُنزل عليه القرآن وقال الأحاديث الشريفة كان يكثر من الدعاء: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) رواه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها. وفي رواية له: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّكَ تُكْثِرُ تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ قَلْبَ الآدَمِيِّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الله عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ وَإِذَا شَاءَ أَقَامَهُ).

لذلك عدَّ العلماء الأمن من مكر الله تعالى كبيرة من الكبائر، كما أن اليأس من رحمة الله كبيرة من الكبائر.

وقد جاء في الأثر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئًا، فدخل عليه رجل فقال: ما الكبائر؟ فقال: الشِّرْكُ بالله، والإياس من رَوْح الله، والأمن من مكر الله، وهذا أكبر الكبائر) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره. وفي رواية عن ابن مسعود موقوفاً: (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْقَنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ) رواه الطبراني والبيهقي في الشعب وعبد الرزاق في مصنفه.

كن خائفاً طائعاً:

لذلك فالكمال في الإنسان المؤمن أن يكون خائفاً من الله تعالى طامعاً في رحمته عز وجل، وأن يغلِّب جناح الخوف على الرجاء أيام شبابه، وأن يغلِّب جناح الرجاء على الخوف أيام شيخوخته، وليستحضر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) رواه مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

وليستحضر كذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) رواه الطبراني عن سهل رضي الله عنه.

ويقول الحسن البصري، رحمه الله تعالى: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مُشْفِق وَجِل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.

وقفة مع حديث قاتل مئة نفس:

من خلال ما تقدم يجب علينا أن نبني أساس علمنا بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والتي من جملتها حديث قاتل مئة نفس.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى الله، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ).

سنقف مع هذا الحديث الشريف وقفة المتدبر المستفيد إن شاء الله تعالى:

أولاً: المجرم مجروح الفؤاد إن شاء وإن أبى:

الفائدة الأولى التي نستفيدها من هذا الحديث الشريف بأن الإنسان المجرم هو مجروح الفؤاد معذَّب الضمير إن شاء وإن أبى، إن أظهر وإن أخفى، وخاصة من كانت معه بقية من إيمان.

قد يرتكب إنسان جريمة (ما)، وربما أن تخفى هذه الجريمة عن الخلق، ولكنها لن تخفى على الله ولا على صاحبها، فَشَبَحُ الجريمة دائماً وأبداً مخيِّم عليه، وكلما سمع بالعقوبة على الجريمة يرتعد فؤاده وإن لم يظهر ذلك على جوارحه، وخاصة جريمة القتل.

تصوَّر الإنسان الذي ارتكب جريمة قتل، ثم قرأ أو سمع قول الله عز وجل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. كيف يكون شعور هذا الإنسان؟ لأنه في الحقيقة يعلم بأن هذا القرآن كلام الله تعالى، وربما أن يستكبر ويتناسى في الظاهر، ولكنه في الباطن موقن به بأنه من عند الله، كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ}. لذلك كفاك نصراً على خصمك بأنك تنام وأنت منكسر الفؤاد إلى الله تعالى تشعر بأنك مظلوم، وهو مُعَذَّبٌ من داخله، والدليل على ذلك هذا الحديث الشريف.

رجل من بني إسرائيل مجرم سفَّاك للدماء يعيث في الأرض فساداً، ومن الطبيعي أنه مُهابٌ في قومه، ما الذي دفعه ليبحث عن التوبة؟ وهل تقبل توبته أم لا؟ إنه العذاب النفسي الذي يعاني منه .

لذلك أقول: لذة المعصية تذهب وتبقى مرارتها، كما أن ثقل الطاعة يذهب وتبقى حلاوتها، فكن حريصاً على الطاعة لتبقى معك لذتها وخاصة أيام الشيخوخة، واحذر المعصية حتى لا تذوق مرارتها أيام الشيخوخة.

فكِّر فيما مضى من عمرك ألا تجد مصداقية هذا الكلام؟

ثانياً: إن سئلت كن ناصحاً:

نستفيد من هذا الحديث الشريف بأن نكون ناصحين إذا سئلنا أن نتكلم بما نعلم لا بما نظن أو نتصور، لأن الدين بالنقل وليس بالعقل، فإذا كنا لا نعلم فيجب علينا أن نَدُلَّ على من يعلم لا على من تزيَّا بزيِّ العلماء وهو لا يعلم.

إن سُئِلتَ وأنت لا تعلم فحوِّل على من يعلم، ولا تحوِّل على عابد لا يعلم، لأنه لا يشترط في كل عابد أن يكون عالماً، ولا يشترط في كل من تزيَّا بزيِّ العلماء أن يكون عالماً، وكم من أناس يخدعون الناس بمظاهرهم.

ثالثاً:كن عالماً عابداً:

نستفيد من هذا الحديث الشريف بأن نكون عالمين عابدين، لأن العبادة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت مبنية على أساس العلم.

العالم العامل ينقذ نفسه وينقذ غيره، وهذا هو الصالح المصلِح، أما العابد بدون علم فقد يضرُّ نفسه ويضرُّ غيره، العابد بدون علم يتكلَّم بعواطفه وقد يُيَئِّسُ الناس ويُقَنِّطٌهم من رحمة الله تعالى.

هذا راهب جاهل سأله القاتل فأجابه بغير علم، وهذه طامة كبرى عندما يتكلَّم الإنسان بغير علم، فإنه يَضِلَّ ويُضِل، ويفتري الكذب على الله تعالى، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون}.

لذلك مجالسة العابد الجاهل قد تنفعك وقد تضرُّك، تنفعك إذا لم يتكلم، وتضرُّك إذا تكلم بغير علم، فإذا ما أردت أن تسأل فاسأل أهل الذكر يعني أهل العلم، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}. أنت لا تعلم فإذا سألت من لا يعلم ماذا تُحَصِّل؟

من هو العالم؟

وإذا أردت أن تسأل فاسأل العالم الذي تعرفه وتعرف سلوكه، حتى تثق في فتواه، لأن هذا دين فانظر عمن تأخذ دينك.

والعالم الحق هو العالم العامل، وإلا فهو جاهل ولو كان صدره يحوي العلم، العالم غير العامل يشكِّك الناس في دينهم من حيث يدري ومن حيث لا يدري، الناس يتأثَّرون بالتقليد أكثر من الكلام، والناس يتعلَّمون بالتقليد بسرعة أكثر من التعلُّم بالكلام، فما يحصِّله الإنسان بالتقليد يكون أرسخ في النفس، لذلك عندما أقيمت الحجة على المشركين في مسألة التوحيد وما استطاعوا الردَّ جاء جوابهم بقولهم: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون}.

لذلك قالوا: زلَّةُ العالِم زلَّةُ العالَم، ومن هنا جاء التشديد على نساء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا}.

وهنا أريد أن ألفت النظر إلى مسألة الحجاب، حيث يدَّعي بعض الناس أن آية الحجاب خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا}.

الأمر واحد وهو إدناء الجلباب، والمأمور ثلاثة أصناف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وبنات النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء المؤمنين.

وقد ثبت بدون منازع بأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سَدَلْنَ على وجوههنَّ قطعاً، وهذا في صحيح البخاري، نساء النبي صلى الله عليه وسلم طبَّقن أمر الله تعالى، والأمر متوجِّهٌ لنساء المؤمنين، فلماذا المغالطة؟

فالعالم الحقُّ هو العامل وإلا فهو جاهل، هذا سيدنا يوسف عليه السلام يدعُو ربه بقوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِين}.

وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الجلساء دلَّ على العالم العامل فقال صلى الله عليه وسلم: (من ذكَّركم الله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله) رواه أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنه.

العالم العامل يدعوك إلى الإسلام بعمله قبل قوله، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين}.

سل علماء بلدك الذين تعرف سيرتهم وسلوكهم وأخلاقهم، سل العلماء الملتزمين بدين الله، لأنك تسأل عن أقدس شيء في حياتك ألا وهو دينك.

لذلك كانت وصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بن عمر دينك دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا) رواه ابن عدي عن ابن عمر رضي الله عنه.

رابعاً: من يحول بين العبد وبين التوبة:

الله تبارك وتعالى فتح باب التوبة أمام جميع خلقه، ولم يغلق باب التوبة عن أحد مهما كان ذنبه ومهما كانت جريمته، باب التوبة مفتوح حتى أمام الذي جعل مع الله آلهة أخرى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا}. فكيف يغلَقُ باب التوبة عمَّن دون المشرك والقاتل بغير حق والزاني؟ فباب التوبة مفتوح بفضل الله عز وجل لا يُغلَق حتى تطلع الشمس من مغربها، أو إذا وقع العبد في سياق الموت، نسأل الله تعالى أن لا يحرمنا التوبة، ونرجوه أن يرزقنا توبة صادقة لا ننقض عهدها أبداً. آمين.

قد يقول أحدهم: إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}. فالله تعالى لا يغفر للعبد المشرك، أقول: صحيح بأنَّ الله عز وجل لا يغفر للعبد المشرك، هذا إذا مات على الشرك.

فالله تعالى فتح باب التوبة لجميع العصاة وذلك رحمةً بهم ورحمةً بالمؤمنين، لأن العبد إذا أذنب وعلم بأن الله تعالى لن يقبل توبته إذا تاب فإنه سيعيث في الأرض فساداً، لذلك رأينا هذا الرجل القاتل تسعة وتسعين نفساً عندما قال له الراهب: لا، كانت النتيجة أن طاله الشر من قبل هذا الرجل.

فباب التوبة مفتوح لمن أراد التوبة، والله تعالى توَّاب على من تاب ما دامت روحه في جسده ولم تقع في الغرغرة، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيما * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

خامساً: لطف النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه:

وفي الحديث الشريف إشارة إلى لطف النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وذوقه الرفيع أثناء حديثه مع الآخرين، عندما قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟). لم يقل: ومن يحول بينك وبين التوبة، كأنه يخاطب السامع.

سادساً: كيف يحافظ العبد على توبته؟

نستفيد من هذا الحديث الشريف بأن باب التوبة مفتوح أمام العصاة إذا أرادوا الاصطلاح مع الله تعالى، فإذا تاب العبد إلى الله تعالى قَبِلَ توبته، ولكن كيف يحافظ العبد على توبته لله عز وجل؟

سبيل تربوي للمحافظة على التوبة: ألا وهو الابتعاد عن الجوِّ الذي كنت فيه، والابتعاد عن الأشخاص الذين كنت معهم، والابتعاد عن المكان الذي اقترفت فيه المعاصي على قدر جهدك {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.

استبدل الجو بجوٍّ آخر، والأصدقاءَ بأصدقاء آخرين، والمكانَ بمكان آخر، حتى لا تحنَّ إلى المعصية مرة ثانية، لذلك قال هذا العالم للتائب: (انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ). وهذا ما أكَّده ربنا عز وجل بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين}.

ورحم الله القائل:

وقاطع لمن واصلت أيام غفلة *** فما واصل الأحباب من لا يقاطع

أقول: هذا على قدر الاستطاعة، فإذا لم تستطع فكن على حذر من أن تضع نفسك في الجو الذي كنت فيه، وكن على حذر إن جالست من كنت تجالسه أيام الغفلة، وكن عل حذر من الحنين إلى المعصية إذا كنت في المكان الذي كنت تعصي الله فيه، واستعن بالله على الاستقامة، وسل الله أن يديم عليك حلاوة التوبة والرجوع إليه تبارك وتعالى.

سابعاً: المعول عليه الخاتمة:

نستفيد من هذا الحديث الشريف بأن المعوَّل عليه حسن الخاتمة، نسأل الله لنا جميعاً هذا، هذا العبد أقبل على الله تعالى ولكنْ عاجَلَتْهُ المنية قبل أن يُصلح ما أفسد، وقبل أن يعمل صالحاً، وقبل أن يعيد الحقوق لأصحابها، فهل قبل الله توبته أم لا؟

الجواب: قطعاً قبل الله توبته، لأن توبته كانت صادقة، وعلم الله ذلك من عزم قلبه على ذلك، فالله تعالى لا ينظر إلى صورنا وأجسادنا ولكن ينظر إلى قلوبنا، فعَلِم الله صدقه في التوبة وعزمه على الاصطلاح مع الله تعالى بحيث لو فتح له أيام حياة جديدة لكان صادقاً في توبته.

وهذا لا ينطبق على قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ}. هذا العبد يسأل الله تعالى الرجعة عندما وقع في سياق الموت، وكشف له عن موضعه من نار جهنم كما قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد}. طلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب، أما هذا العبد القاتل فرجع إلى الله قبل أن يقع في سياق الموت، ولكن الموت كان قريباً منه وهو لا يدري.

لذلك أقول: اعزم على فعل الطاعات واحذر من الوقوع في المخالفات لأنك لا تدري متى ينتهي الأجل، وتذكر قول الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}.

ثامناً: من يؤدي حقوق العباد عن التائب؟

نستفيد من هذا الحديث الشريف بأن حقوق العباد يتحمَّلها الله عز وجل عن العبد التائب الصادق في توبته إذا أدركته المنية ولم يستطع تأدية هذه الحقوق.

جاء في الأثر: (اللهم إنَّ لك عليَّ حقوقاً، ولعبادك عليَّ حقوقاً، اللهم ما كان لك فاغفره لي واعف عني، وما كان لعبادك فتحمَّله عني يا رب العالمين).

ويؤكد هذا المعنى حديث آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله: كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب فليحمل من أوزاري، وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس أن يُحْمَل من أوزارهم.

فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر، فرفع فقال: يا ربِّ أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكلَّلة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ أو لأي صديق هذا؟ أو لأي شهيد هذا؟ قال: لمن أعطى الثمن، قال: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب إني قد عفوت عنه، قال الله: فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله يصلح بين المسلمين) رواه الحاكم.

تاسعاً: النية لا يعلمها إلا الله تعالى:

نستفيد من هذا الحديث الشريف بأن النية لا يعلمها إلا الله تعالى، لا يعلمها ملك فيكتبها، ولا شيطان فيفسدها، فللمخلوقات الظاهر والله يتولى السرائر.

فالملائكة الكرام لا يكتبون إلا ما نقول وما نعمل، أما النية فالله عز وجل وحده هو الذي يعلمها.

لذلك اختصمت الملائكة في شأن هذا العبد القاتل، مَلائِكَةُ الْعَذَابِ قَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، ومَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ قَالَتْ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى الله.

فالذي محا آثام هذا العبد وخطاياه توبته لله عز وجل، فلو أن هذا العبد لم يخطُ ولا خُطوة واحدة إلى أرض الطاعة فالله تعالى قابل توبة هذا العبد.

ولكن الذي جرى بين الملائكة ما هو إلا تجسيد لرحمة الله بعبده إذا صدق بتوبته، فرحمة الله تعالى تنال العبد التائب الصادق في توبته.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

كن رحيماً بعباد الله، رَغِّبهُم في التوبة، فالله تعالى غافر الذنب، قابل التوب، ولو أن العبد أطبق الأرض بالمعاصي وأراد أن يتوب فاحذر من أن تُيَئِّسه من رحمة الله تعالى، لأن رحمته لا يعلمها إلا الله تعالى.

اللهم عاملنا بفضلك لا بعدلك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**     **     **

 

 2009-10-28
 3585
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  نحو أسرة مسلمة

28-01-2018 4169 مشاهدة
200ـ نحو أسرة مسلمة: اللَّهُمَّ فهمنيها

لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد

 28-01-2018
 
 4169
21-01-2018 5034 مشاهدة
199ـ نحو أسرة مسلمة :مفتاح سعادتنا بأيدينا

كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد

 21-01-2018
 
 5034
14-01-2018 3624 مشاهدة
198ـنحو أسرة مسلمة : بعد كل امتحان ستعلن النتائج

صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد

 14-01-2018
 
 3624
08-01-2018 4221 مشاهدة
197ـنحو أسرة مسلمة: وصية الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لنا

القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد

 08-01-2018
 
 4221
31-12-2017 4242 مشاهدة
196ـ نحو أسرة مسلمة :دمار الأسر بسبب الفسق والفجور

إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد

 31-12-2017
 
 4242
24-12-2017 4034 مشاهدة
195ـنحو أسرة مسلمة : أين بيوتنا من تلاوة القرآن؟

سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد

 24-12-2017
 
 4034

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412875720
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :