440ـ خطبة الجمعة: لا ينجو من خطر الميزان إلا من حاسب نفسه
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيَا عِبَادَ اللهِ، لِكُلِّ عَامِلٍ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا أَهْدَافٌ، ولِكُلِّ مُجْتَهِدٍ غَايَاتٌ، والنَّاسُ بَيْنَ عَامٍلٍ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا، ومُجْتَهِدٍ يُرِيدُ اللهَ والدَّارَ الآخِرَةَ، يَصْرِفُ لذلكَ أَوْقَاتَهُ، ويُضْنِي نَفْسَهُ، ويُجْهِدُ بَدَنَهُ، يَبْتَغِي بذلكَ الأَجْرَ والمَثُوبَةَ، يَتَوَرَّعُ عن المُحَرَّمَاتِ، ويَبْتَعِدُ عن المُوبِقَاتِ.
وقِسْمٌ آخَرُ خَلَطَ عَمَلاً صَالِحَاً وآخَرَ سَيِّئَاً، أَكْثَرَ من الصَّالِحَاتِ، فَصَامَ وصَلَّى وزَكَّى وفَعَلَ الخَيْرَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَرَّعْ عن المَظَالِمِ، ولَمْ يَجْتَنِبِ المَحَارِمَ، وأَكَلَ حُقُوقَ النَّاسَ وتَعَدَّى عَلَيهِم، والكُلُّ سَيُعْرَضُونَ على اللهِ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ، والكُلُّ سَيُحَاسَبُونَ.
كَيفَ سَيَكُونُ حَالُ الظَّالِمِ حِينَ يَلْقَى اللهَ تعالى؟
يَا عِبَادَ اللهِ، العَبدُ الذي أَرَادَ الحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا، وخَلَطَ عَمَلاً صَالِحَاً وآخَرَ سَيِّئَاً، فَظَلَمَ العِبَادَ، كَيفَ سَيَكُونُ حَالُهُ حِينَ يَلْقَى اللهَ تعالى؟
أولاً: كَيفَ يَلْقَى اللهَ تعالى آكِلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ؟
يَا عِبَادَ اللهِ، إِنَّ من عَظِيمِ جُرْمِ العَبدِ أَنْ يَتَنَاوَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بالبَاطِلِ، يَسُوقُهُ طَمَعُهُ الشَّدِيدُ، وَيَؤُذُهُ جَشَعُهُ إلى المَزِيدِ، لا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَالٍ حَلالٍ أو حَرَامٍ، ولا مَالِ يَتِيمٍ أو مِسْكِينٍ، ويَتَعَامَى عَن قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمَاً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارَاً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرَاً﴾.
بَل يَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ قَرْضَاً وسَلَفَاً وهوَ لا يَنْوِي رَدَّهَا، ويَتَعَامَى عَن قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ، آكِلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ بِأَيِّ صُورَةٍ من الصُّوَرِ، كَيفَ يَلْقَى اللهَ عزَّ وجلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ، واللهُ تعالى خَصْمُهُ والعِيَاذُ باللهِ تعالى؟
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرَّاً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرَاً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ».
ثانياً: كَيفَ يَلْقَى اللهَ تعالى سَافِكُ الدِّمَاءِ؟
يَا عِبَادَ اللهِ، إِنَّ من عَظِيمِ جُرْمِ العَبدِ أَنْ يَلْقَى اللهَ تعالى بِدَمٍ سَفَكَهُ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ، فَيُرِيدُ المَقْتُولُ القَصَاصَ مِنهُ عِنْدَ أَعْدَلِ العَادِلِينَ، وأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ، لقد تَعَامَى العَبدُ الظَّالِمُ عَن قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
وعَن قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وعَن قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
لا يَنْجُو من خَطَرِ المِيزَانِ إلا مَن حَاسَبَ نَفْسَهُ:
يَا عِبَادَ اللهِ، هَا نَحنُ نُوَدِّعُ شَهْرَ شَعْبَانَ الذي غَفَلَ عَنهُ كَثِيرٌ من النَّاسِ، هَا نَحنُ نُوَدِّعُ شَهْرَ شَعْبَانَ الذي تُرَفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إلى اللهِ تعالى، وبَعْدَ أَيَّامٍ نَسْـتَقْبِلُ شَهْرَ رَمَضَانَ إِنْ كَانَ لنَا بَقِيَّةٌ من عُمُرٍ.
يَا عِبَادَ اللهِ، كُونُوا على يَقِينٍ أَنَّهُ لا يَنْجُو من خَطَرِ المِيزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ إلا مَن حَاسَبَ نَفْسَهُ، وَوَزَنَ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ أَقْوَالَهُ وأَعْمَالَهُ، وخَطَرَاتِهِ ولَحَظَاتِهِ، وسَمِعَ أَمْرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ، اِعْلَمُوا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَيْ رَسُولَ اللهِ، أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟
قَالَ: «نَعَمْ، لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يُؤَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقُّهُ».
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: واللهِ إِنَّ الْأَمْرَ لَشَدِيدٌ. رواه الإمام أحمد.
يَا عِبَادَ اللهِ، يَوْمُ القِيَامَةِ يَوْمُ شِدَّةٍ، يَوْمٌ لا يُسَامَحُ فِيهِ بِخُطْوَةٍ، ولا يُتَجَاوَزُ فِيهِ عَن لَطْمَةٍ ولا كَلِمَةٍ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «يَحْشُرُ اللهُ العِبَادَ ـ أَوْ قَالَ: النَّاسَ ـ عُرَاةً غُرْلَاً بُهْمَاً» .
قِيلَ: وَمَا بُهْمَاً؟
قَالَ: «لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَن بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَن قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، ولَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَعِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ».
قِيلَ: كَيْفَ ذَا وإِنَّمَا نَأْتِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلَاً بُهْمَاً؟
قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ» وتَلا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ رواه الإمام الحاكم عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ، وَدِّعُوا شَهْرَ شَعْبَانَ بِصِدْقِ التَّوْبَةِ، واسْتَقْبِلُوا شَهْرَ رمَضَانَ بالاصْطِلاحِ مَعَ اللهِ تعالى تُسْعَدُوا دُنيَا وأُخْرَى.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لذلكَ. آمين.
أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 25/شعبان /1435هـ، الموافق: 12/ حزيران / 2015م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد
فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد