أهلا بكم في موقع الشيخ أحمد شريف النعسان

1904 - حكم التوسل والاستغاثة

27-03-2009 2730 مشاهدة
 السؤال :
ما هو حكم التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالأولياء والصالحين؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 1904
 2009-03-27

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقبل الإجابة عن السؤال لا بد من معرفة أمور ثلاثة:

أولاً: الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم أن تُحمل على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، ولا يجوز أن نبادر برميه بالكفر أو الشرك، فإن إسلامه قرينةٌ قويةٌ توجب علينا ألَّا نَحْمِل أفعاله على ما يقتضي الكفر، وتلك قاعدة عامة ينبغي على المسلمين معرفتها، وقد عبر الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى عن ذلك بقوله: (من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ويحتمل الإيمان من وجه نحمل أمره على الإيمان)، ولنضرب لذلك مثلاً قولياً وآخر فعلياً.

فالمسلم يعتقد أن المسيح عليه السلام يحيي الموتى ولكن بإذن الله، وهو غير قادر على ذلك بنفسه وإنما بقوة الله له، والنصراني يعتقد أنه يحيي الموتى، ولكنه يعتقد أن ذلك بقوة ذاتية، وأنه هو الله، أو ابن الله، أو أحد أقانيم كما يعتقدون، وعلى هذا فإذا سمعنا مسلماً موحداً يقول: (أنا أعتقد أن المسيح يحيي الموتى). ونفس تلك المقالة قالها آخر نصراني، فلا ينبغي أن نظنَّ أن المسلم تنصَّر بهذه الكلمة، بل نحملها على المعنى اللائق بانتسابه للإسلام ولعقيدة التوحيد.

والمسلم يعتقد أيضاً أن العبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده، والمشرك يعتقد جواز صرفها لغير الله تعالى، فإذا رأينا مسلمًا يصدر منه لغير الله ما يحتمل العبادة وغيرها وجب حمل فعله على ما يناسب اعتقاده كمسلم، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يزل عنه بالشك والاحتمال، ولذلك لما سجد معاذ بن جبل رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن ماجه وصححه ابن حبان نهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، ولكنه لم يصف فعله هذا بالشرك أو الكفر، وبدهي أن معاذاً رضي الله عنه ـ وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام ـ لم يكن يجهل أن السجود عبادة، وأن العبادة لا يجوز صرفها لغير الله، ولكن لما كان السجود يحتمل وجهاً آخر غير عبادة المسجود له، وهو سجود الإجلال والتوقير، لم يجز حمله على العبادة إذا صدر من المسلم أو تكفيره بحال، وفي ذلك يقول الحافظ الذهبي: (ألا ترى الصحابة من فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: لا، وذلك في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْيَمَنِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ رِجَالاً بِالْيَمَنِ يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِهِمْ، أَفَلا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ: (لَوْ كُنْتُ آمِرًا بَشَرًا يَسْجُدُ لِبَشَرٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا). فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير لا سجود عبادة، كما قد سجد إخوة يوسف عليه السلام ليوسف. وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التعظيم والتبجيل لا يكفر به أصلاً، بل يكون عاصياً، فليعرف أن هذا منهي عنه وكذلك الصلاة إلى القبر).

والإخلال بهذا الأصل الأصيل هو مسلك الخوارج، حيث وضح ابن عمر رضي الله عنهما أن هذا هو مدخل ضلالتهم فقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين (علقه البخاري في صحيحه ووصله ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار بسند صحيح(.

ثانياً: تعريف الشرك: هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله تعالى، حتى لو كان ذلك بغرض التقرب إلى الله كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أولِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى}. وإنما قلنا على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله تعالى لإخراج كل ما خالف العبادة في مسماها وإن وافقها في ظاهر اسمها، فالدعاء قد يكون عبادة للمدعوِ قال تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا}. وقد لا يكون، قال تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا}. والسؤال قد يكون عبادة للمسؤول، قال تعالى: {وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ}. وقد لا يكون، قال تعالى: {لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم}. والاستعانة قد تكون عبادة للمستعان به، قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين}. وقال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ}. وقد لا تكون، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}. والحب قد يكون عبادة للمحبوب وقد لا يكون كما جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في قوله: (أَحِبُّوا الله لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ الله، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي) رواه الترمذي وصححه الحاكم. وهكذا، أي أن الشرك إنما يكون في التعظيم الذي هو كتعظيم الله تعالى، كما قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون}. وكما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله}.

فالشرك هو: تعظيم مع الله أو تعظيم من دون الله، ولذلك كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام إيماناً وتوحيداً، وكان سجود المشركين للأوثان كفراً وشركاً مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقاً، لكن لما كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام تعظيماً لِما عظَّمه الله كما أمر الله، كان وسيلة مشروعة يستحق فاعلها الثواب، ولما كان سجود المشركين للأصنام تعظيماً كتعظيم الله كان شركاً مذموماً يستحق فاعله العقاب.

فإذا ما حصل خلاف بعد ذلك في بعض أنواع الوسيلة كالتوسل بالصالحين والدعاء عند قبورهم مثلاً، أو حصل خطأ فيها من بعض المسلمين فيما لم يشرع كونه وسيلة كالسجود للقبر أو الطواف به، فإنه لا يجوز أن ننقل هذا الخطأ أو ذلك الخلاف من دائرة الوسيلة إلى دائرة الشرك والكفر، لأننا نكون بذلك قد خلطنا بين الأمور وجعلنا التعظيم بالله كالتعظيم مع الله، والله تعالى يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون}.

ثالثاً: أن هناك فارقاً أيضاً ما بين كون الشيء سبباً وبين الاعتقاد بأنه خالق ومؤثر في نفسه، وقد ثبت هذا التفريق بنص القرآن العظيم والسنة المطهرة، على سبيل المثال قال تعالى في حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}. وقال له في مكان آخر: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. فالآية الأولى تثبت بأنه صلى الله عليه وسلم هادي، وهذا من حيث السبب، والآية الثانية تثبت بأن الله هو الهادي، وهذا من حيث الاعتقاد والتأثير.

ومن السنة المطهرة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) رواه الترمذي.

ويقول في مكان آخر: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) رواه مسلم.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (وَالله فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) رواه مسلم. فالحديث الأول يبين بأن الخالق والمؤثر هو الله تعالى، وفي الحديث الثاني، يبين السبب.

إلى ما هنالك من الآيات والأحاديث التي تفرق بين الاعتقاد بأن الخالق والمؤثر هو الله وحده، وبين الأسباب التي تؤخذ.

فإذا رأينا مسلماً يطلب أو يسأل أو يستعين أو يرجو نفعاً أو ضراً من غير الله فإنه يجب علينا قطعاً أن نحمل ما يصدر منه على ابتغاء السببية لا على التأثير والخلق، لما نعلمه من اعتقاد كل مسلم أن النفع والضر الذاتيين إنما هما بيد الله وحده، وأن هناك من المخلوقات ما ينفع أو يضر بإذن الله، فإذا عرفنا هذه الأمور الثلاثة فإنه يجب علينا استحضارها في الكلام على حكم التوسل والاستغاثة.

أما إقحام الشرك والكفر في هذه المسألة فلا وجه له، اللهم إلا على افتراض أن المتوسل والمستغيث يعتقد في المتوسل والمستغاث به أنه يجلب الضر أو النفع بذاته.

رابعاً: إن أول من نقل مسألة التوسل والاستغاثة من فروع الفقه إلى أصول العقائد هو ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولم يسبقه إلى ذلك أحد من السلف ولا الخلف، فابتدع ما لم يقله عالم قبله، كما جاء في رد المحتار لابن عابدين رحمه الله تعالى، قال: وَقَالَ السُّبْكِيُّ : يَحْسُنُ التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ إلَى رَبِّهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلا الْخَلَفِ إلا ابْنَ تَيْمِيَّةَ فَابْتَدَعَ مَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ قَبْلَهُ. اهـ.

فقد كانت مسألة التوسل والاستشفاع والاستغاثة لمدة ثمانية قرون مسألة فقهية، وكان الفقهاء في المذاهب الأربعة يبحثونها في باب الحج والزيارة وغيرها، حتى جاء ابن تيمية رحمه الله فنقلها إلى باب العقيدة، وحكم على المتوسل والمستغيث والمستشفع بالكفر، واستحلَّ دماءهم وأعراضهم وأموالهم.

الأدلة على جواز التوسل والاستغاثة:

وبعد هذه المقدمة أسوق لك الأدلة على جواز التوسل والاستشفاع والاستغاثة، في حال حياة المتوسَّل به والمستشفع به والمستغاث به في الدنيا والآخرة والبرزخ.

أولاً: في الحياة الدنيا: روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، (أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ، وَرَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ الله يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَا، قَالَ أنَس: وَلا وَالله مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلا قَزَعَةً وَلا شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: وَالله مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكَتْ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ الله يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ).

هذا الرجل جاء مستغيثاً برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله في أن يمطرهم، فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله). ولم يقل له: (ادعوا الله القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}. والقائل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.

وجاء في الحديث الصحيح، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلاً ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يُعَافِيَنِي، قَالَ: إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَاكَ فَهُوَ خَيْرٌ، فَقَالَ: ادْعُهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتَقْضِي لِي، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

فالنبي صلى الله عليه وسلم علَّمه التوسل والاستغاثة بجاهه صلى الله عليه وسلم، كما هو ظاهر في نص الحديث، فهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الناس التوحيد أم الشرك؟ ولماذا لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله ) رواه الترمذي؟

ثانياً: أما في الآخرة، فما رواه البخاري في صحيحه مرفوعاً: (إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

لماذا لم يتوجه الناس في أرض المحشر إلى الله تعالى مباشرةً، بل توجهوا إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام؟ والذي يخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فهل قال عنهم: كفروا وأشركوا وسألوا غير الله، أم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استغاثوا به ليشفع لهم؟

ثالثاً: أما في البرزخ: فأولاً: أنقل كلام ابن القيم في كتاب الروح قال: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء خصوصاً بموسى، وقد أخبر بأنه: ما من مسلم يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام. روى أبو داود بإسناد رجاله ثقات ـ كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ) إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياء موجودون ولا نراهم. اهــ.

ثانياً: قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وَرَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة بِإِسْنَادٍ صَحِيح مِنْ رِوَايَة أَبِي صَالِح السَّمَّانِ عَنْ مَالِك الدَّارِيّ ـ وَكَانَ خَازِن عُمَر ـ قَالَ: أَصَابَ النَّاس قَحْط فِي زَمَن عُمَر، فَجَاءَ رَجُل إِلَى قَبْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه اِسْتَسْقِ لأُمَّتِك فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي الْمَنَام فَقِيلَ لَهُ: اِئْتِ عُمَر فَأَقرِئهُ السَلامَ، وَأَخْبِرهُ أَنَّكُم مُسْقَونَ، وَقُلْ لَه: عَلَيْكَ الكَيِّس! عَلَيْكَ الكَيَّس! فَأَتَى عُمَرَ فَأَخبَرَهُ فَبَكَى عُمَر ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ لا آلُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنه).

فهذا الحديث يُثْبِت بلا شك ولا ريب إجماع من حضر من الصحابة في زمن سيدنا عمر رضي الله عنهم على جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ونحن مقتدون بالصحابة في ذلك.

وقال الإمام الداراميّ في صحيحه عن أبي الجوزاء قال: (قُحِطَ أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة رضي الله عنه فقالت: فانظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ففعلوا فمطروا، حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمى عام الفتق).

لماذا فعلت السيدة عائشة رضي الله عنها هذا؟ والصحابة الذين فعلوا هذا ووافقوها هل أشركوا؟ هل ابتدعوا؟ هل ضلوا؟ نستغفر الله تعالى من هذا.

وكان ابن حجر العسقلاني يقول في ديوانه:

        نــــبيَّ الله يـا خـــيرَ البرايا *** بجاهك أتَّقي فصلَ القضاء

                                   وأرجــو يا كريـــمُ العفوَ عمَّا *** جنته يــــداي يا رب الحَباء

        فكعب الجود لا يرضى فداءً *** لنعلك وهو رأس في السخاء

                                     وســـــــنَّ بمدحك ابن زهير *** لمثلي مــــنك جائزة الثناء

                                    فــــــقل يا أحمد بن علي اذهب *** إلى دار النعيم بلا شــــقاء

      فإن أحزن فمدحك لي سروري *** وإن أقنط فحمدك لي رجائي

وديوان الحافظ مطبوع قديماً في الهند، وهناك نسخة منه في مكتبة الجامعة الأردنية، فمن انتقد بعض أبيات البوصيري رحمه الله تعالى فلينتقد أبيات الحافظ ابن حجر.

وقال الإمام النووي في المجموع مبيناً ما يستحب أن يقوله من يزور النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقف أمام القبر الشريف مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نصه: (ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي و القاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال: (كنت جالساً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه        فطاب من طيبهنَّ القاع والاكم

نفسي الفداء لقبر أنـت ساكنه          فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف، فحملتني عيناي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عتبي الحق الأعرابي فبشره بأن الله تعالى قد غفر له).

والقصة ثابتة تناقلها العلماء، وعلى فرض أنها مكذوبة فالعبرة باستحسان النووي وسائر الشافعية لهذه الصيغة المذكورة في قصة العتبي، فهل يستحسنون الشرك، ولا يميزون بين الشرك والإيمان؟

فانظر رحمك الله تعالى وهداك كيف استحسن العلماء هذه الصيغة في نداء النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب العفو وأن يستغفر الله له، ونحن لا نفعل إلا ذلك ولا نستحب إلا هذا، ولا نزيد على ما ورد في الأحاديث المتقدمة أو ما جاء عن العلماء الكبار في العلم، ولا نعتقد في المخلوقين أنهم يرزقون بذاتهم أو يحيون ويميتون، فالله تعالى بين لنا في كتابه أن إسناد الفعل لغيره على طريق المجاز ليس شركاً، ولكن ما نصنع بمن لا يدرك المجاز وينكره أشد الإنكار، قال تعالى في شأن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}. فلو قال شخص أن سيدنا عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، لم يكن كافراً، مع أن الله تعالى هو محيي الموتى حقيقة وهو الذي يبرئ الأكمه والأبرص، وكلُّنا يعتقد أن التأثير لله لا لسيدنا عيسى، وكذلك إذا استغاث رجل برسول الله صلى الله عليه وسلم راجياً أن يدعو الله له في تفريج مصيبته أو كربه معتقداً أنه حيٌّ في قبره يبلغه سلامُ أمته أينما كانوا وتعرض عليه أعمالهم، لم يكن ذلك شركاً عند من تجرَّد من العصبية واتقى الله تعالى، بل سيتحقق أن ذلك سنة وردت به الأحاديث الصحيحة، ونص عليه علماء الأمة الثقات من السلف والمحدثين.

وأخيراً أقول: لا يجوز للمسلمين أن يشغلوا أنفسهم بمثل هذه المسائل ويجعلوها قضايا يحمل بعضهم فيها سيف الكلام على صاحبه، فيكون جهاد في غير وغى، ويكون ذلك سبباً في تفريق الصفوف وبعثرة الجهود ويشغلنا عن بناء مجتمعاتنا ووحدة أمتنا، فضلاً عن أن يكفر بعضهم بعضاً. هذا، والله تعالى أعلم.

المجيب : الشيخ أحمد شريف النعسان
2730 مشاهدة
الملف المرفق