410ـ خطبة الجمعة: متى الراحة؟

410ـ خطبة الجمعة: متى الراحة؟

 

 410ـ خطبة الجمعة: متى الراحة؟

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، شَاءَ اللهُ عزَّ وجلَّ أن يَجعَلَ هذهِ الحَيَاةَ الدُّنيَا دَارَ مَمَرٍّ لا مَقَرٍّ، وأن يَجعَلَهَا دَارَ شَقَاءٍ وتَعَبٍ، وعَنَاءٍ ونَصَبٍ، شَاءَ اللهُ تعالى أن يَجعَلَ مَتَاعَهَا قَلِيلاً، وكَثِيرَهَا ضَئِيلاً، وأن يَجعَلَ حَلالَهَا حِسَابَاً، وحَرَامَهَا عَذَابَاً، لا تَصْفُو لِشَارِبٍ، ولا يَبقَى لَهَا صَاحِبٌ، من أَحَبَّهَا أَذَلَّتْهُ، ومن تَبِعَهَا أَعمَتْهُ.

هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَذَى   ***   وَدَارُ الْـفَـنَاءِ وَدَارُ الْغِيَرْ

فَـلَـوْ نِـلْـتـهَا بِـحَـذَافِـيرِهَا   ***   لَمِتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرْ

مَتَى الرَّاحَةُ؟

يَا عِبَادَ اللهِ، الحَيَاةُ الدُّنيَا لَيسَ فِيهَا رَاحَةٌ أَبَدِيَّةٌ، ولا سَعَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، إنَّمَا الرَّاحَةُ والسَّعَادَةُ والنَّعِيمُ المُقِيمُ، والفَوزُ العَظِيمُ، لمن رَحِمَهُ اللهُ تعالى فَزَحزَحَهُ عن نَارِ الجَحِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

سُئِلَ الإمامُ أحمَدُ بنُ حَنبَلَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: مَتَى الرَّاحَةُ؟

فَقَالَ: عِندَمَا نَضَعُ أَوَّلَ رِجْلٍ في الجَنَّةِ.

يَا أَيُّهَا العَبدُ المَحْزُونُ:

يَا أَيُّهَا العَبدُ المَحْزُونُ المَهْمُومُ المَكْلُومُ المَجْرُوحُ، يَا أَيُّهَا العَبدُ البَاكِي في هذهِ الأَزمَةِ، يَا أَيُّهَا العَبدُ المُحتَرِقُ فُؤَادُهُ في هذهِ الأَزمَةِ، يَا أَيُّهَا المُتَحَسِّرُ على مَا فَاتَكَ من الدُّنيَا، يَا أَيُّهَا العَبدُ المَوجُوعُ، اِعلَمْ هذهِ الحَقَائِقَ الثَّلاثَةَ:

أولاً: الدُّنيَا ظِلٌّ زَائِلٌ:

اِعلَمْ يَا أَيُّهَا العَبدُ المَحْزُونُ، بأنَّ الدُّنيَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وسَرَابٌ رَاحِلٌ، فَهِيَ ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

وأَخرَجَ الإمام الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ.

فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَو اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً.

فَقَالَ: «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا».

ثانياً: وَرَاءَ الدُّنيَا دَارٌ أَعظَمُ:

اِعلَمْ يَا أَيُّهَا العَبدُ المَحْزُونُ، أنَّ وَرَاءَ الدُّنيَا دَارَاً أَعظَمَ مِنهَا قَدْرَاً، وأَجَلَّ مِنهَا خَطَرَاً، قَالَ تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

ثالثاً: زُهدُكَ في الدُّنيَا لا يَنقُصُ شَيئَاً كُتِبَ لَكَ مِنهَا:

اِعلَمْ يَا أَيُّهَا العَبدُ المَحْزُونُ، أنَّ زُهدَكَ في الدُّنيَا لا يَنقُصُ شَيئَاً كُتِبَ لَكَ مِنهَا، كَمَا أنَّ حِرْصَكَ عَلَيهَا لا يَزِيدُكَ شَيئَاً على مَا كُتِبَ لَكَ مِنهَا، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الحاكم عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أنَّ مَا أَصَابَكَ لَم يَكُنْ لِيُخطِئَكَ، ومَا أَخطَأَكَ لَم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ».

فَمَا كَانَ لَكَ فَسَيَأتِيكَ على ضَعْفِكَ، ومَا كَانَ لِغَيرِكَ فَلَن تَنَالَهُ بِقُوَّتِكَ، وهذهِ حَقِيقَةٌ لا رَيبَ فِيهَا «رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لِنَجَعَلْ هَمَّنَا هَمَّاً وَاحِدَاً، ألا وهوَ مَرضَاةَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأن نَخرُجَ من هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا وذِمَّتُنَا بَرِيئَةٌ أَمَامَ العِبَادِ، واللهِ لو كَانَتِ الدُّنيَا من ذَهَبٍ يَفنَى، والآخِرَةُ من خَزَفٍ يَبقَى، لَقَدَّمَ العَاقِلُ الخَزَفَ البَاقِي على الذَّهَبِ الفَانِي، فَكَيفَ والآخِرَةُ من ذَهَبٍ يَبقَى، والدُّنيَا من خَزَفٍ يَفنَى.

لقد بَاعَ الكَثِيرُ من النَّاسِ آخِرَتَهُمُ البَاقِيَةَ بِعَرَضٍ من الدُّنيَا قَلِيلٍ، فَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وسَلَبُوا الأَموَالَ، ودَمَّرُوا البُيُوتَ، واغتَصَبُوا حُقُوقَ الآخَرِينَ، وظَنُّوا أنَّ سَعَادَتَهُم بذلكَ، ونَسُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، لا تَأسَفُوا على شَيءٍ فَاتَ من دُنيَاكُم، فَمَا هيَ إلا أَيَّامٌ وتَنتَهِي، وعِندَ اللهِ تَجتَمِعُ الخُصُومُ، وتَذَكَّرُوا قَولَ سَيِّدِنَا الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عِندَمَا قَالَ: أَدْرَكتُ أَقوَامَاً، وَصَحِبْتُ طَوَائِفَ، مَا كَانٌوا يَفرَحُونَ بِشَيءٍ من الدُّنيَا أَقبَلَ، ولا يَأسَفُونَ عَلَى شَيءٍ مِنهَا أَدبَرَ، وَلَهِيَ كَانَت في أَعيُنِهِم أَهوَنَ من التُّرَابِ، كَانَ أَحَدُهُم يَعِيشُ خَمسِينَ سَنَةً أو سِتِّينَ سَنَةً لَم يُطْوَ لَهُ ثَوبٌ، ولَم يُنصَبْ لَهُ قَدْرٌ، ولَم يُجعَلْ بَينَهُ وبَينَ الأَرضِ شَيءٌ، ولا أَمَرَ مَن في بَيتِهِ بِصَنعَةِ طَعَامٍ قَطُّ، فإذا كَانَ اللَّيلُ فَقِيَامٌ على أَقدَامِهِم، يَفتَرِشُونَ وُجُوهَهُم، تَجرِي دُمُوعُهُم على خُدُودِهِم، يُناجُونَ رَبَّهُم في فَكَاكِ رِقَابِهِم، كَانُوا إذا عَمِلُوا الحَسَنَةَ دَأَبُوا في شُكْرِهَا وسَأَلُوا اللهَ أن يَقْبَلَهَا، وإذا عَمِلُوا السَّيِّئَةَ أَحزَنَتْهُم وسَأَلُوا اللهَ أن يَغفِرَهَا لَهُم، فَلَم يَزالُوا على ذلكَ، وواللِه ما سَلِمُوا من الذُّنُوبِ ولا نَجَوا إلا بالمَغفِرَةِ، رَحمَةُ اللهِ عَلَيهِم ورِضْوَانُهُ.

يَا سَافِكَ الدِّمَاءِ من أَجلِ الدُّنيَا، ويَا سَالِبَ الأَموَالِ، ويَا مُفَرِّقَاً بَينَ الأَحِبَّةِ، ويَا مُرَوِّعَ الآمِنِينَ، كَم هيَ حَسْرَتُكَ عَظِيمَةٌ يَومَ القِيَامَةِ، عِندَمَا تَرَى مَن ظَلَمْتَهُ وَضَعَ قَدَمَهُ اليُمنَى وهوَ دَاخِلٌ الجَنَّةَ، وأَنتَ وَضَعتَ قَدَمَكَ اليُسْرَى وأَنتَ دَاخِلٌ النَّارَ؟

اللَّهُمَّ لا تَجعَلنَا من النَّادِمِينَ المُتَحَسِّرِينَ الذينَ يَسأَلُونَ الرَّجْعَةَ عِندَ سَكَرَاتِ المَوتِ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 21/محرم /1435هـ، الموافق: 14/تشرين الثاني/ 2014م

 2014-11-14
 4751
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 140 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 140
12-04-2024 766 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 766
09-04-2024 594 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 594
04-04-2024 704 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 704
28-03-2024 606 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 606
21-03-2024 1067 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1067

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413167085
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :