2ـ عهود رمضانية: العهد الثاني: حسن الخلق

2ـ عهود رمضانية: العهد الثاني: حسن الخلق

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فقد اتخذنا البارحة عهداً على أنفسنا ألا نفرط في الوقت، فكل نَفَس يخرج منك محسوبٌ عليك، وستُسأل عنه يوم القيامة، علم هذا من علم، وجهل هذا من جهل، ولذلك فكل عاقل يعرف قيمة وقته، ومن عرف قيمة الوقت لم يدركه المقت. وأما من ضيع أوقاته فقد أدركه المقت في الدنيا والآخرة ـ والعياذ بالله تعالى ـ.

أما العهد الذي نأخذه على أنفسنا في هذا اليوم فهو: الخلق الحسن، الذي يتحدث به كل واحد فينا، ولا يختلف فيه اثنان، لأنه صفة محمودة، ولأن الخلق الحسن يجر لك في الحياة الدنيا الذكر الحسن، ويجعلك يوم القيامة أقرب الناس إلى سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام. فمن عرف قيمة الخلق الحسن جاهد نفسه ليله ونهاره في أن يتخلق به، فإذا عرفت أن ثمرة الخلق الحسن أن تتشرف بجوار سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام، فوالله لو أنفقت وقتك كله في جهادك لنفسك لتكون أخلاقك حسنة فأنت رابح ولست بخاسر. والكثير منا ينظر إلى الطرف الآخر هل يحسّن خلقه أم لا؟ فإن أحسن الطرف الآخر خلقه يفكر في أن يحسن أخلاقه، انظر إلى الأخ مع أخيه، والزوج مع زوجته، والولد مع أمه والبنت مع أمها، والرجل مع الرجل، كل واحد ينتظر الطرف الآخر، فلا يحسن أخلاقه حتى يحسن الطرف الآخر أخلاقه. وهب أن الطرف الآخر لن يحسن أخلاقه فهل تكون مثله لا تحسن أخلاقه؟ لذلك من عرف ثمرة حسن الخلق اهتم بنفسه، وتذكر قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}.

لذلك على كل واحد منا أن يحسن أخلاقه، لأنني سأسأل عن نفسي، وأنت ستسأل عن نفسك، والمرأة ستسأل عن نفسها، وكل منا سيوضع عمله في الميزان يوم القيامة، والذي يحدد ميزانك بأنه ثقيل أو خفيف أعمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أعمالنا ستعرض على أعمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل اتبعنا واقتدينا؟ قال مولانا عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.

لذلك انظروا إلى سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه، تحدثنا عنه زوجته رضي الله عنها وعنه فتقول: بات أبو الدرداء ليلة يصلي فجعل يبكي وهو يقول: اللهم أحسنت خلقي فحسن خلقي، حتى أصبح ـ يرفع يديه ويدعو الله عز وجل مع البكاء، إلى أذان الفجر، نعم أيها الإخوة، الذي يشعر بحاجته وفقره، والذي يشعر بأنه بحاجة إلى رحمة الله يقف على باب مولاه ساعات وساعات، كما أن أحدنا في لحظة من اللحظات يقف على باب مخلوق ساعات وساعات ليتكلم معه كلمة واحدة. أما إذا أردت أن تجالس مولاك، فكأن مولانا جل وعلا يقول لكل واحد منا: عبدي، إذا أردت أن تجالسني فأنا جليسك في الوقت الذي أنت تريد. فمجالستك للمخلوق في الزمن الذي هو يريد، أما إذا أردت أن تجالس مولاك ففي المكان والوقت الذي تريد، وسواء طال الزمن أم قصر.

فسيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه جلس يدعو الله من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر وهو يدعو بدعاء واحد، تقول أم الدرداء: فجعل يبكي وهو يقول: (اللهم أحسنت خلقي فحسِّن خلقي). فيا من خلقك الله في أحسن تقويم لماذا لم تكن أخلاقك حسنة، فإذا وجدت أخلاقك لا قدر الله سيئة فالتجئ إلى الله، لأنك ضعيف، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن نقول كما قال لسيدنا معاذ رضي الله عنه: (اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) [رواه أبو داود]. من منا لا يقف في كل يوم أمام المرآة ليهيئ نفسه أثناء الخروج، فإذا نظرت في المرآة وأعجبتك هيئتك، فادع بهذا الدعاء الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نقول كلما نظر أحدنا في المرآة: (اللهم كما حسَّنت خَلْقي فحسِّن خُلُقي) رواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان.

قالت له زوجته: يا أبا الدرداء، ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق؟ فقال: يا أم الدرداء، إن العبد المسلم يحسن خلقه حتى يدخله حسن الخلق الجنة، ويسيء خلقه حتى يدخله سوء خلقه النار.

أيها الإخوة: بحسن الخلق تدخل الجنة، وبسوء الخلق يدخل الإنسان النار، ولو صام وصلى وحج واعتمر، ولو قرأ القرآن وذكر الله عز وجل، ولو فعل الطاعات.

ثم قال أبو الدرداء رضي الله عنه: وإن العبد المسلم ليغفر له وهو نائم. قالت: وكيف هذا يا أبا الدرداء؟ قال: يقوم أخوه من الليل فيتهجد فيدعو الله عز وجل فيستجيب له، ويدعو لأخيه فيستجيب له فيه [رواه البيهقي في شعب الإيمان]. فمن صاحبك وصديقك؟ هل يستيقظ في الأسحار؟؟ إذا كنت لا تستيقظ في الأسحار، فلا أقل من أن يكون لك صديق صالح، والصديق الصالح هو الذي يكون حريصاً على صديقه؟ قل لي: من هو صاحبك؟ هل الذي يلعب بالشطرنج أو ورق الشدة أو الطاولة؟ أم الذي يقضي وقته في الغفلة عن الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) [رواه أبو داود والترمذي]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة) [رواه البخاري ومسلم]. انظر إلى الأخ الصالح كم تنتفع منه؟ وإنني لأعرف بعض السادة من العلماء الصلحاء العاملين، يكتب أسماء أصحابه وأصدقائه، وكلما استيقظ في السحر أخذ الورقة وبدأ يدعو الله لهؤلاء الأصحاب والأصدقاء. لذلك نحن بأمس الحاجة أن نبحث عن الجليس الصالح.

فالعهد الذي نأخذه على أنفسنا اليوم هو: حسن الخلق، ونعاهد الله عز وجل أيضاً أن نقول كلما نظرنا في المرآة: اللهم كما أحسنتَ خَلْقي فحسِّن خُلُقي. بالله عليك أترضى وأنت كلما نظرت إلى المرآة وقلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لأنك ترى نفسك أجمل خلق الله عز وجل، أن يلقى هذا الجسد الجميل في النار، فهل جسدك وشخصك رخيص عندك أن يلقى في النار بسبب سوء الخلق؟!

لذلك تعالوا نستمع إلى بعض أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحدثنا عن حسن الخلق.

يروي الإمام الترمذي عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).

ومن جملة الأخلاق الحسنة ما يحدثنا عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يروي ذلك الإمام مسلم، عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُتي الله بعبد من عباده آتاه الله مالاً فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال: {ولا يكتمون الله حديثاً} قال: يا رب آتيتني مالك فكنت أُبايع الناس ـ على أساس من النصح لا على أساس من الغش، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من غشنا فليس منا) [رواه مسلم] ـ وكان من خلقي الجواز، فكنت أتيسر على الموسر وأُنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي). اسمع يا صاحب الخلق الحسن، يا من تقابل السيئة بالحسنة، ولا تقابل السيئة بالسيئة، ويا من تعفو وتصفح، ويا من تتخلق بالأخلاق الكريمة، اسمع ماذا يقول الله عز وجل لهذا العبد يوم القيامة: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي. فإذا أردت أن يغفر الله لك فاعف واصفح، لأن ربنا جل وعلا يقول: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}؟

ويروي الإمام الترمذي عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)، لأن الشأن أن تكون محباً ومحبوباً، فالحريص على صاحبه يريد أن يكون محبوباً عنده، فإن أحببت صاحبك وصاحبُك لا يحبك، وإن أحبت المرأة زوجها وزوجها لا يحبها فالحياة شقاء وجحيم، ولكن السعادة أن تكون محباً ومحبوباً. لذلك كن حريصاً أن تكون محبوباً عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند أولياء الله الصالحين، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لسيدنا معاذ رضي الله عنه: (يا معاذ، والله إني لأحبك) [رواه أبو داود] أما أنا وأنت فمن يحبنا؟ ومن أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في الفردوس الأعلى إن شاء الله. ومن تمام السعادة أن تكون محباً ومحبوباً وأن تكون قريباً، فإذا أردت أن تكون محبوباً عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقرباً منه، فعليك بحسن الخلق.

ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون ـ كثير الكلام تكلّفاً ـ والمتشدقون ـ يتكلف الكلام ـ والمتفيهقون ـ الذي يتكلم الكلام وعنده شيء من الاستعلاء ـ قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارين والمتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) والمتكبر صاحب خلق سيء.

لذلك فعهدنا في هذا اليوم حسن الخلق، وثمرة حسن الخلق أن تكون محبوباً عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تكون قريباً منه، وأن نكثر من هذا الدعاء كلما نظرنا في المرآة: (اللهم كما أحسنت خلقي فحسن خُلُقي).

والحمد لله رب العالمين.

 

 2007-09-29
 6365
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 1 ]

المحب لله
 2007-10-03

جزاكم الله كل الخير, وأسال الله أن نعمل بما نقرأ, وأن ينفعنا بما نعمل, وأساله تعالى أن يعم الخير علينا وعليكم وعلى أمــة سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم.

 

مواضيع اخرى ضمن  دروس رمضانية

14-03-2024 207 مشاهدة
1-مواساة لأصحاب الأعذار في رمضان

يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد

 14-03-2024
 
 207
26-05-2022 652 مشاهدة
28ـ غزوة بدر وحسرة المشركين

فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد

 26-05-2022
 
 652
26-05-2022 485 مشاهدة
27ـ غزوة بدر درس عملي لكل ظالم ومظلوم

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد

 26-05-2022
 
 485
29-04-2022 364 مشاهدة
26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 364
29-04-2022 749 مشاهدة
25ـ هنيئًا لكم أيها الصائمون القائمون

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد

 29-04-2022
 
 749
29-04-2022 854 مشاهدة
24ـ أقوام عاشوا عيش السعداء

الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 854

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3154
المكتبة الصوتية 4763
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411996207
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :