60ـ نحو أسرة مسلمة: كيف نفهم أحاديث الرحمة؟(1)

60ـ نحو أسرة مسلمة: كيف نفهم أحاديث الرحمة؟(1)

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

مقدمة الدرس:

فقد ذكرت في الدرس الماضي بأن حقيقة الفرح بالصيام هي أن يكون مقبولاً عند الله عز وجل، وعلامة قبول العبد استقامته على طاعة الله عز وجل.

لأن المقبول عند الله عز وجل يجب عليه أن يكون لله عز وجل شاكراً، والشكر يتجلى في سلوك العبد وأعماله، وقلت: انظر إلى عملك بعد الصيام هل هو عمل الشاكرين؟

والعبد إذا لم يكن مقبولاً عند الله تعالى، وخرج من شهر رمضان ولم يغفر له ـ لا قدر الله تعالى ـ فيجب أن يكون عمله بعد شهر رمضان عمل الخائفين.

وإذا دقَّقنا النظر في أفعالنا من يوم العيد وما بعده فإنا نراها أفعال اللامبالين، أفعال العبد الذي ما اهتمَّ بقبول العمل أم بِردِّه لا قدر الله تعالى، المهمُّ أنه صام وقام، وما فكَّر هل قُبِل العمل أم لا؟

وما رأينا طالباً دخل قاعة الامتحان ثم خرج منها وهو لا يفكِّر في نتيجة الامتحان إلا اللامبالي، الذي لا يهتم بنجاح ولا رسوب، ولكن لحاجة في نفسه دخل قاعة الامتحان، ثم خرج منها، وكأنه بلسان الحال قال لمن ألزمه بدخول قاعة الامتحان: ماذا تريد ها أنا دخلت قاعة الامتحان وخرجت منها؟ هذا هو اللامبالي.

لماذا شدَّة الترهيب؟

قال لي بعض الإخوة الكرام ممن حضر الدرس: لماذا هذا الترهيب؟

هل إذا رجعنا إلى المخالفات الشرعية من يوم العيد وما بعده يعني أن أفعالنا في شهر رمضان صارت مردودة؟

لماذا لا تحدَّثنا عن رحمة الله عز وجل الواسعة، فهناك كثير من الأحاديث الشريفة التي تطمئن قلب العبد المؤمن؟

نعم أيها الإخوة الكرام: هناك أحاديث كثيرة وكثيرة جداً تحدِّثنا عن رحمة الله عز وجل الواسعة، بل هناك لكثير من الآيات الكريمة التي تتحدث عن رحمة الله عز وجل، ولكن أقول: الآيات التي تتحدث عن رحمة الله عز وجل نزلت على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله تعالى وتلاها على أصحابه الكرام، والأحاديث الشريفة التي تتحدث عن رحمة الله عز وجل نطق بها الصادق المصدوق، وسمعها الصحب الكرام الذين عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولكن كيف كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وحال الصحابة رضوان الله عليهم الذين آمنوا وصدَّقوا تلك الآيات والأحاديث الشريفة؟

حال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أيها الإخوة: يجب علينا أن لا نخدع أنفسنا حتى نأمن مكر الله عز وجل، الذي أُنزل عليه القرآن الكريم بما فيه من الآيات المبشِّرة برحمة الله تعالى، والذي نطق بالأحاديث الشريفة أحاديث الرحمة، كان من سيرته العطرة أنه متواصل الأحزان، روى الترمذي في الشمائل والبيهقي في شعب الإيمان ودلائل النبوة عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة ـ وكان وصافاً ـ فقلت: صف لي منطق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة...».

وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى سُمِع لصدره أزيز كأزيز المرجل، روى أبو داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنْ الْبُكَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي رواية عند أحمد والنسائي وغيرهما: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ.

وكان صلى الله عليه وسلم كثير البكاء، روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ» قَالَ: قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قَالَ لِي: «كُفَّ أَوْ أَمْسِكْ» فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ.

لو تساءلنا: لماذا هذا البكاء؟ ولماذا هذا الخوف؟ وهو صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله؟ الجواب: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون}.

النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتورَّم قدماه، ثم يصلي الفجر في جماعة إماماً للمسلمين، وبعد ذلك يقول: (اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ) رواه البخاري.

ولو تدبَّر أحدنا كلمات هذا الاستغفار، ولم يعرفه حديثاً لقال أحدنا: ماذا فعل صاحب هذا الدعاء حتى يدعو بتلك الكلمات: (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ)، (وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي)، صدق الله تعالى القائل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}، فكيف بسيد العلماء من الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم؟

حال الصحابة رضي الله عنهم:

أما حال الصحابة رضي الله عنهم ـ الذين سمعوا آيات البشارة والأحاديث المبشِّرة برحمة الله عز وجل ـ في خوفهم من الله عز وجل فحدِّث عنه بلا حرج، لأن الله تعالى حدَّث عنهم:

أولاً: قال تعالى في وصفهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون}. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ».

ثانياً: قال الله تعالى في وصفهم: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون}، ما كانوا يقتصرون على الفرائض ولا على السنن الرواتب، بل أتوا على السنن غير المؤكدة وحافظوا عليها، وبعدها أكثروا من الاستغفار، لماذا؟ لأنهم كانوا يفكِّرون هل قُبل منهم العمل أم لا؟ لأنهم تدبَّروا قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.

ثالثاً: قال تعالى في وصفهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون}، يدعون الله تعالى بعد الطاعات خوفاً من أن تُرَدَّ، وطمعاً برحمة الله أن تُقبل، فكانت أعمالهم أعمال الشاكرين الخائفين رضي الله عنهم.

الفارق بيننا وبين الصحابة الكرام رضي الله عنهم:

أيها الإخوة الكرام: الفارق بيننا وبين أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء واحد، الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخافون بعد فعل الطاعات أن لا تُقبل، ويستغفرون الله عز وجل بعدها رجاء أن تُقبل. أما نحن فإذا أتينا بالطاعات نطمئن اطمئناناً كاملاً، ويكاد أحدُنا أن يجزم بأن طاعاته صارت مقبولة، أما بعد المعاصي فالقليل من يستغفر الله عز وجل، بل ربما وصل أحدنا إلى درجة أن يقول: ما هي المشكلة؟ وكأن الذنب مثل ذبابة حطَّت على أنفه فأشار إليها بيده هكذا، فطارت، وهذا ليس من وصف المؤمن أبداً، جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا» رواه البخاري وغيره.

الكثير ممن لا يستغفر بعد المعاصي والمخالفات، بل ربما لا يفكر بأنها معصية، على سبيل المثال: من منا يفكر عندما ينظر إلى التلفاز ويرى صورة امرأة سافر كاشفة عن رأسها وذراعيها ونحرها بأن هذه النظرة معصية، وأنه يجب عليه أن يستغفر الله عز وجل منها؟

فالفارق بيننا وبين أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الواحد منهم كان يستغفر بعد الطاعة، وأحدنا ربما أن لا يستغفر بعد المعصية.

من أين جاءنا هذا الداء؟

أيها الإخوة: في الحقيقة هذا داء وصل إلينا، حيث نطمئن مع وجود المعصية اعتماداً منا على آيات وأحاديث الرحمة، لو تساءلنا من أين جاءنا هذا الداء؟

هذا الداء جاءنا من الشيطان الرجيم، الذي أقسم لربِّنا عز وجل بقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين}، هذا من غواية الشيطان، ولو فكَّرنا جيداً لوقفنا عليها، الشيطان ما يترك أحداً من الخلق، الشيطان يريد للجميع الغواية، وهو يعمل في غواية الناس من خلال طريقين:

الأول: التيئيس من رحمة الله عز وجل، لو أراد المذنب أن يصطلح مع الله تعالى جاءه الشيطان وأخذ يذكِّره بمعاصيه لله عز وجل، ويذكِّره بآيات العذاب وآيات الإنذار، ويذكِّره بصفات الجلال لله عز وجل، يأتيه بآيات من القرآن العظيم، من مثل قوله عز وجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء}، من مثل قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيد * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد}، من مثل قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين}، ويبقى ملازماً له بذلك حتى يصرفه عن التوبة لله عز وجل.

الثاني: التطميع في رحمة الله عز وجل، لو أراد الطائع أن يفعل المعصية جاءه الشيطان وأخذ يطمِّعه في رحمة الله عز وجل إذا وقع في المعصية، ويوسوس له بأن رحمة الله وسعت كلَّ شيء، وهو شيء، فرحمة الله تَسَعُه، ويوسوس له بأن معصيته لا تضر الله عز وجل، والله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} ، ويبقى ملازماً له حتى يوقعه في المعصية لله عز وجل.

فالأول يئس من رحمة الله واستمرَّ على معصية الله عز وجل، والثاني أمِنَ مكر الله تعالى فوقع في معصية الله عز وجل، والنتيجة: جعل الشيطان الاثنين عصاة لله عز وجل.

لا تنظر بعين واحدة:

أيها الإخوة: الحقيقة التي يجب علينا أن نعلمها هي أن الواجب علينا أن نُقبل على الله تعالى خائفين راجين، أن نُقبل عليه بجناحي الخوف والرجاء، وأن لا نجعل للشيطان علينا سبيلاً، فلا نغترَّ بطاعة، ولا نقنط بسبب المعصية.

إذا أطعنا الله تعالى لا نغتر لأن الأمور بخواتيمها، ربما أن تكون البداية صالحة والخاتمة سيئة، كما جاء في الحديث: (أَلا إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى: فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

وإذا عصينا الله تعالى لا نيأس من رحمة الله عز وجل، فنقبل على الله تعالى طامعين برحمته عز وجل، فإنه يغفر الذنوب جميعاً.

هذا هو الكمال أن تجمع بين الأمرين، كما قال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}، وكما قال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}، فلا بدَّ من الجمع بينهما.

كيف نفهم أحاديث الرحمة؟

أيها الإخوة الكرام: سوف أذكر لكم بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبشِّر العبد برحمة الله عز وجل، وبأن الله تعالى عند ظن عبده.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».

وأخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ».

وأخرج الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: «لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

السؤال الذي أطرحه عليكم: هل بمجرد الظن بالله تعالى بأن الله سيغفر ويتوب ويُدخل الجنة يتحقَّق للعبد ما أراد؟

أيها الإخوة: يجب علينا أن نفهم الأحاديث الشريفة فهماً صحيحاً، وإلا سيفاجأ العبد يوم القيامة لا قدر الله تعالى.

نعم يجب على العبد أن يُحسِن الظن بالله تعالى، ولكن كيف يُحسِن الظن بالله تعالى؟ قال شُرَّاح الحديث الشريف من أساطين العلماء: بالمراد بالظن هو العلم، كقوله تعالى: {وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ}، أي علموا أن لا ملجأ من الله إلا إليه.

فمعنى الظن العلم، فاعلم يا أخي بأنك إذا دعوت الله فاعلم أنه يستجيب لدعائك، وإذا تبت إلى الله فاعلم أنه يقبل توبتك، وإذا استغفرت الله فاعلم أنه يغفر ذنبك، فالظن هو العلم.

أما إذا دعوت الله وظننت أنه لن يستجيب لك فلن يستجيب لك، وإذا تبت إلى الله وظننت أنه لن يقبل توبتك فلن يقبلها، وإذا استغفرت وظننت أنه لن يغفر لك فلن يغفر لك.

فحسن الظن بالله يجب أن يكون مبنياً على قواعد صحيحة من الكتاب والسنة، وإلا فهو جاهل ومغرور، فصاحب الظن الحسن بالله هو الذي يعمل ولا يعيش بالأماني.

الفرق بين الأمنية والرجاء:

أيها الإخوة الكرام: هناك فارق بين الأمنية والرجاء، فالمؤمن يرجو ولا يتمنى، لأن التمني يعلم صاحبه أنه لن يتحقَّق له ما يتمناه، كما قال الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يوماً *** فأخبره بما فعل المشيب

والتمني هو وصف أهل الكتاب، قال تعالى مخبراً عنهم: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين}، هذه أمنية، كما قال تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}.

أهل الكتاب يظنون كذلك أنهم أبناء الله وأحباؤه، كما قال تعالى مخبراً عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء}.

فلو كان حسن الظن يحقق للإنسان ما يتمناه لاستوى الجميع، أما كان يقول الرجل لصاحبه الذي يحاوره: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا}، كذلك هذا يظن بالله هذا الظن، فهل يتحقق له ما يريد؟ كل هذه أماني، والأماني وهم وسراب.

أما الرجاء فعمل، كما قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، فالمؤمن يرجو رحمة الله ويحسن الظن بالله، فمن رجا رحمة الله وأحسن الظن بالله عمل أعمال الشاكرين أو أعمال الخائفين، أما الذي يحسن الظن بالله ويعمل أعمال اللامبالين فهذا عبد متوهِّم، بنى فهمه للأحاديث والآيات التي تدل على سعة رحمة الله على أساس من الجهل.

قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين}، فإذا كان الملتزم يرجو وغير الملتزم يتمنى ويستويان عند الله عز وجل لما تحقق عدل الله تعالى، ولفقدت الآية معناها.

كن حكيماً في التبليغ:

لذلك يجب على المبلِّغ رسالة الله تعالى أن يكون حكيماً في تبليغ رسالة الله تعالى، فإذا رأى مذنباً يريد التوبة والرجوع إلى الله تعالى وجب عليه أن يرغِّبه برحمة الله وعفوه، وإذا رأى مسرفاً على نفسه غارقاً في معصية الله وجب عليه أن يحذِّره من سخط الله وبطشه.

لذلك رأينا من أوائل ما نزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر * قُمْ فَأَنذِر}، وقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين}، ولذلك لما نزلت هذه الآية صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ»، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ، حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ»؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلا صِدْقًا، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».

ما رأيكم أيها الإخوة؟ لو جمعنا اليوم الشباب المتفلِّت من دين الله ، والشابات المتفلِّتات من دين الله، وحدَّثناهم عن رحمة الله عز وجل، وقلنا لهم هذه الأحاديث التي سمعناها قبل قليل: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي...»، وسألناهم: كيف ظنُّكم بالله؟ فقالوا: سيغفر لنا لأنه رحيم، قلنا لهم: اطمئنوا إذاً؟

هل هذا صحيح؟ قطعاً يجب علينا أن نحذِّرهم من مغبَّة ما هم فيه، ويجب علينا أن نعلمهم بأن بطش الله شديد إذا لم يتوبوا، وإلا فقد غششناهم.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

أسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع الصحيح، وأن يجعلنا ممن يقبل على الله بجناحي الخوف والرجاء، وأن تكون أعمالنا متقلبة بين أعمال الشاكرين وأعمال الخائفين، إنه نعم المسؤول. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

**     **     **

 

 2009-10-07
 2797
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  نحو أسرة مسلمة

28-01-2018 4179 مشاهدة
200ـ نحو أسرة مسلمة: اللَّهُمَّ فهمنيها

لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد

 28-01-2018
 
 4179
21-01-2018 5050 مشاهدة
199ـ نحو أسرة مسلمة :مفتاح سعادتنا بأيدينا

كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد

 21-01-2018
 
 5050
14-01-2018 3637 مشاهدة
198ـنحو أسرة مسلمة : بعد كل امتحان ستعلن النتائج

صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد

 14-01-2018
 
 3637
08-01-2018 4231 مشاهدة
197ـنحو أسرة مسلمة: وصية الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لنا

القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد

 08-01-2018
 
 4231
31-12-2017 4252 مشاهدة
196ـ نحو أسرة مسلمة :دمار الأسر بسبب الفسق والفجور

إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد

 31-12-2017
 
 4252
24-12-2017 4049 مشاهدة
195ـنحو أسرة مسلمة : أين بيوتنا من تلاوة القرآن؟

سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد

 24-12-2017
 
 4049

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412969801
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :