9ـ دروس رمضانية لعام 1436: هلموا جميعاً إلى التوبة

9ـ دروس رمضانية لعام 1436: هلموا جميعاً إلى التوبة

 

 9ـ دروس رمضانية لعام 1436: هلموا جميعاً إلى التوبة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أيُّها الإخوة الكرام:

إِنَّ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ فِي الحَياةِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الإِنْسَانُ بِعُبوديَّتِهِ للهِ عزَّ وجلَّ، وَخَاصَّةً في وَقتٍ اتَّجَهَ فِيهِ بَعضُ النَّاسِ إِلى العُبوديَّةِ لِغَيْرِ اللهِ تَعالى، فَمِنهُم مَن صَارَ عَبْدَاً لِلمَالِ، وَمِنهُم مَن صَارَ عَبْدَاً لِلثِّيَابِ، كَمَا قَال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ» رَوَاهُ الإمام البُخَارِيُّ وَابنُ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمِنهُم مَن صَارَ عَبْدَاً لِلجَاهِ والكُرسِيِّ والرِّياسَةِ والرِّيادَةِ، وهَذِه العُبودِيَّةُ لِغَيْرِ اللهِ تعالى دَفَعَتْهُ لارتِكابِ جَرائِمِ القَتْلِ والسَّلْبِ والسَّرِقَةِ والنَّهْبِ والهَتْكِ للأَعرَاضِ  ـ والعِياذُ بِاللهِ تَعالى ـ.

هَذا الصِّنفُ مِن النَّاسِ مَا عَرَفُوا اللهَ تعالى، مَا عَرَفوا بِأنَّ اللهَ تَعالى فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ، مَا عَرَفوا بِأنَّ اللهَ تَعالى يَعلَمُ خائِنَةَ الأعيُنِ ومَا تُخفي الصُّدورُ، مَا عَرَفوا بِأنَّ اللهَ تَعالى أَحَاطَ بِكلِّ شَيءٍ عِلماً، مَا عَرَفوا بِأنَّهم رَاجِعُونَ إِلى اللهِ تعالى رَغْمَاً عَن أُنُوفِهِم، ومَا عَرَفوا حَقِيقَةَ قَولِ اللهِ تَعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدَاً.

هَلُمَّ إلى اللهِ تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: إنِّي أَتَوَجَّهُ إلى مَن سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ العُبودِيَّةَ لِغيرِ اللهِ تعالى، فَارْتَكَبَ  جَرَائِمَ القَتْلِ والسَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَت من الأَمْوَالِ العَامَّةِ أو الخَاصَّةِ، وَهَتْكِ الأَعْرَاضِ، وتَرويعِ النَّاسِ، لِأقولَ لَهُ: أَيُّهَا القَاتِلُ السَّارِقُ المُرَوِّعُ للنَّاسِ، هَلُمَّ إلى اللهِ تعالى، وَاسْمَعْ:

أولاً: اِسمَعْ عِتابَ اللهِ تعالى لَكَ:

يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون﴾. أَفَلا يجدُرُ بِكَ أن تُلَبِّيَ نِداءَ اللهِ عزَّ وجلَّ، أَفَلا يجدُرُ بِكَ وقد سَتَرَكَ اللهُ فيما مَضَى أن تُلَبِّيَ نِداءَ اللهِ تعالى، أَفَلا يجدُرُ بِكَ أن تُراجِعَ حِساباتِكَ وأن تَسمَعَ إلى عِتابِ اللهِ تعالى لكَ إِذْ يَقُولُ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾. أَفَلا يجدُرُ بِكَ أن تَسمَعَ تَحذيرَ ربِّكَ إِذْ يَقُولُ: ﴿وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون﴾.

ثانياً: اِسمع دَعوَةَ اللهِ تعالى لَكَ:

يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾.

هَلُمَّ أَيُّهَا القَاتِلُ السَّارِقُ المُرَوِّعُ للنَّاسِ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ والأرضُ، فيها مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ، هَلُمَّ إلى جَنَّةٍ يَقُولُ اللهُ تعالى فِيهَا عَن أَهلِهَا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة﴾.

أَسْرِعْ إلى التَّوبَةِ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمَ ولا يَنفَعَكَ النَّدَمُ، واسْمَعْ ماذا يَقُولُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعَاً: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرَاً مُنْسِيَاً، أَوْ غِنَىً مُطْغِيَاً، أَوْ مَرَضَاً مُفْسِدَاً، أَوْ هَرَمَاً مُفَنِّدَاً، أَوْ مَوْتَاً مُجْهِزَاً، أَو الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَو السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ»  رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ثالثاً: أَمَا عَلِمتَ أَيُّهَا القَاتِلُ السَّارِقُ المُرَوِّعُ للنَّاسِ بِأَنَّ التَّائِبَ حَبِيبُ اللهِ تعالى؟

يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِين﴾. ألا تُريدُ أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ تعالى القَائِلُ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فإذا أَرَدْتَ أَنْ تَنَالَ هذهِ الدَّرَجَةَ مِن اللهِ تعالى فَتَطَهَّرْ مِنَ المَالِ الحَرَامِ الذي دَخَلَ عَليكَ فِي الحَياةِ الدُّنيَا، وإلا فَسَيُطَهِّرُكَ اللهُ تعالى في نَارِ جَهَنَّمَ ـ لا قدَّرَ اللهُ تعالى ـ إذا لم تَتُبْ، لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» رواه البيهقي عن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

تَطَهَّرْ من سَفْكِ الدِّمَاءِ، وانْتِهَاكِ الأَعْرَاضِ، وسَلْبِ الأَمْوَالِ، وتَرْوِيعِ النَّاسِ، بالاسْتِحْلَالِ مِنْهُم، وإلا فَأَنْتَ مِنَ النَّادِمينَ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، عَاجِلاً أَمْ آجِلاً.

رابعاً: ألا تَخَافُ الرَّانَ على قَلْبِكَ؟

يَقُولُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نَكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ: ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

هَلْ تُريدُ أن يَكونَ الرَّانُ على قَلْبِكَ ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ فتُحْجَبَ عَن اللهِ تعالى، ثمَّ المَصِيرُ إلى الجَحِيمِ؟ قَالَ تعالى: ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون * كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيم * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُون﴾.

خامساً:اِغْتَنِمْ فُرْصَةَ الحَيَاةِ:

يَقُولُ سَيِّدُنا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» رواه الإمام مُسلِم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

هَلُمَّ أَيُّهَا القَاتِلُ السَّارِقُ المُرَوِّعُ للنَّاسِ إلى التَّوبَةِ للهِ تعالى قَبْلَ أَنْ تَقَعَ رُوحُكَ في الغَرغَرَةِ فَتَندَمَ ولا يَنفَعُكَ النَّدَمُ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَاً أَلِيمَاً﴾. وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون﴾.

ويَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَد عَنِ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: مَنْ أُعْطِيَ أَرْبَعَاً لَمْ يُمْنَعْ أَرْبَعَاً:

مَنْ أُعْـطِيَ الشُّكْرَ، لَمْ يُمْنَعِ المَزِيدَ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾.

وَمَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ، لَمْ يُمْنَعِ القَبُولَ، قَالَ تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾.

وَمَنْ أُعْطِيَ الاسْتِخَارَةَ، لَمْ يُمْنَعِ الخِيَرَةَ.

وَمَنْ أُعْطِيَ المَشُورَةَ، لَمْ يُمْنَعِ الصَّوَابَ، هَل اسْتَشَرتَ واسْتَخَرتَ قَبْلَ القَتْلِ والسَّرِقَةِ والتَّرْوِيعِ؟ بِئْسَتِ البِطَانةُ التِي تَأمرُ بِقَتْلِ الأَبْرِيَاءِ، وانْتِهَاكِ الأَعْرَاضِ، وسَلْبِ الأَمْوَالِ، وتَرْوِيعِ النَّاسِ.

هَلُمُّوا جَمِيعَاً إلى التَّوبَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ الغَنِيُّ عن عِبادِهِ يُنَادِيهِم وهُمُ الفُقراءُ إِلَيْهِ، بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: أَكثَرُ النَّاسِ لا يَعرِفُونَ قَدْرَ التَّوبَةِ ولا حَقِيقَتَهَا، فَضْلاً عنِ القِيَامِ بِهَا عِلْماً وعَمَلاً وحَالاً، لَو عَرَفُوا حَقِيقَةَ قولِ الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِين﴾. لَرَأيتَهُم مُسْرِعِينَ إلى التَّوبَةِ الصَّادِقَةِ النَّصُوحِ، والتَّوبَةُ النُّصُوحُ لها شروطٌ:

الأوَّلُ: الإِقْلاعُ عَنِ المَعصِيَةِ.

الثَّانِي: النَّدَمُ على فِعلِهَا.

الثَّالِثُ: العَزْمُ على أَن لا يَعُودَ إِليهَا أَبَداً، وإلا لا تَصِحُّ تَوبَتُهُ.

هَذا إِذَا كَانَ الذَّنبُ بَينَ العَبدِ ورَبِّهِ، أَمَّا إِذَا كانَ الذَّنبُ يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الآخَرِينَ، فَلَا بُدَّ أن يَبْرَأَ مِن حَقِّ صَاحِبِهِ، فإِنْ كَانَ مَالاً رَدَّهُ إِليهِ، وَإِن كَانَ قَذْفَاً طَلَبَ عَفْوَهُ، وإِن كَانَ غِيبَةً اسْتَحَلَّهُ مِنهَا.

وهُناكَ شَرْطٌ آخَرُ أَضَافَهُ بَعْضُ العُلماءِ، أَلا وَهُوَ تَركُ قُرَنَاءِ السُّوءِ، مُستْدِلِّينَ لِذلِكَ بِحَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ القَائِلِ فِيهِ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسَاً يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ.

فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ، أَتَاهُ المَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ العَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبَاً مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ العَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرَاً قَطُّ.

فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ، فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ».

قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ المَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ. رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: التَّوبَةُ مِن كَمَالِ الإِيمانِ وحُسْنِ الإِسلَامِ، وسَبَبُ حُبِّ اللهِ تعالى ورِضاهُ، وسَبَبٌ لِذهابِ الضِّيقِ وإِزَالَةِ الهمِّ، فَمَن وَقَعَ في جَرِيمَةِ القَتْلِ، أو في جَرِيمَةِ انْتِهَاكِ الأَعْرَاضِ، أَو فِي جَرِيمَةِ السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ مِنَ الأَموَالِ العَامَّةِ أَوِ الخَاصَّةِ، أَو فِي جَرِيمَةِ تَرْوِيعِ النَّاسِ، فَلْيُبادِرْ إلى التَّوبَةِ الصَّادِقَةِ، وليُرجِعِ الحُقُوقَ لِأصحَابِهَا، أَو أَنْ يَسْتَحِلَّهُم، وإلا فَسَوفَ يَندَمُ عَاجِلاً غَيرَ آجِلٍ.

يَا مَن سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ العُبودِيَّةَ لِغَيْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَقَتَلَ وانْتَهَكَ وَسَرَقَ وَرَوَّعَ، لا تَحرِمْ نَفْسَكَ السَّعادَةَ عِنْدَ سَكَراتِ المَوْتِ، وذلكَ بِتَوبَتِكَ للهِ تعالى قَبْلَ مَوْتِكَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون * نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيم﴾.

لا تَحرِمْ نَفْسَكَ السَّعادَةَ في أَرضِ المَحشَرِ، وَذَلِكَ بِتَوبَتِكَ للهِ تَعالى قَبْلَ مَوْتِكَ، حَتَّى تَكُونَ مِمَّن قَالَ اللهُ فِيهِم: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيه * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة * فِي جَنَّةٍ عَالِيَة * قُطُوفُهَا دَانِيَة * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة.

وأمَّا إِذَا مِتَّ وَأَنتَ مُصِرٌّ على المَعصِيَةِ والجَرِيمَةِ مِن قَتْلِ الأَبرِيَاءِ وانْتِهَاكِ الأَعرَاضِ وسَلْبِ الأَمْوَالِ وَتَرْوِيعِ النَّاسِ، فَاسمَع قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه * خُذُوهُ فَغُلُّوه * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعَاً فَاسْلُكُوه﴾.

اللهُمَّ رُدَّنَا إِليكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 17/ رمضان/1436هـ، الموافق: 4/تموز / 2015م

 2015-07-04
 961
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  دروس رمضانية

14-03-2024 327 مشاهدة
1-مواساة لأصحاب الأعذار في رمضان

يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد

 14-03-2024
 
 327
26-05-2022 694 مشاهدة
28ـ غزوة بدر وحسرة المشركين

فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد

 26-05-2022
 
 694
26-05-2022 519 مشاهدة
27ـ غزوة بدر درس عملي لكل ظالم ومظلوم

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد

 26-05-2022
 
 519
29-04-2022 388 مشاهدة
26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 388
29-04-2022 821 مشاهدة
25ـ هنيئًا لكم أيها الصائمون القائمون

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد

 29-04-2022
 
 821
29-04-2022 935 مشاهدة
24ـ أقوام عاشوا عيش السعداء

الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 935

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413018868
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :