28ـ دروس رمضانية 1435هـ: (إذا فاتك عتق رقبة فعليك بشهادة التوحيد)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: هَا هوَ شَهرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ وَلَّى وانصَرَمَ، مَرَّ عَلَينَا كَأَنَّهُ واللهِ طَيفٌ عَابِرٌ، مَرَّ عَلَينَا ولم نَشعُرْ كَيفَ مَضَى وانصَرَمَ، وهكذا أَيَّامُنَا في حَيَاتِنَا الدُّنيا سَتَنصَرِمُ وتُوَلِّي، فقد يَحِلُّ الأَجَلُ والعَبدُ الغَافِلُ لم يَستَعِدَّ للرَّحِيلِ إلى اللهِ تعالى.
أيُّها الإخوة الكرام: إذا حَانَت سَاعَةُ الرَّحِيلِ، فَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ، وعِندَهَا يَندَمُ العَبدُ ولا يَنفَعُهُ النَّدَمُ، ويُنَادِي ويَقُولُ: يا لَيتَنِي أُرَدُّ فَأَعمَلَ غَيرَ الذي كُنتُ أَعمَلُ.
أيُّها الإخوة الكرام: فُرصَةُ العُمُرِ في الحَيَاةِ الدُّنيا وَاحِدَةٌ لا ثَانِيَةَ لَهَا، فإذا ذَهَبَت وَوَلَّتْ فَهَيهَاتَ أن تَعُودَ، فهل بِوُسعِنَا ونَحنُ في الأيَّامِ الأَخِيرَةِ مِن شَهرِ رَمَضَانَ المُبَاركِ أن نَصطَلِحَ مَعَ اللهِ تعالى؟
هل نَعتَرِفُ بِذُنُوبِنَا؟
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَتَدَارَكْ ما فَاتَنَا، وخَاصَّةً في هذهِ اللَّيلَةِ الأَخِيرَةِ مِن شَهرِ رَمَضَانَ المُبَاركِ، وذلكَ لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهُ إذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْهُ غَفَرَ اللهُ لَهُمْ جَمِيعاً».
فَقَالَ رَجُلٌ: أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
فَقَالَ: «لَا، أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعُمَّالَ يَعْمَلُونَ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وُفُّوا أُجُورَهُمْ» رَوَاهُ البيهقي عن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
أيُّها الإخوة الكرام: هل نَعتَرِفُ بِذُنُوبِنَا؟ هل نَتُوبُ إلى اللهِ تعالى تَوبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً؟ هل نَتَوَجَّهُ إلى اللهِ تعالى حتَّى يُعِينَنَا لإعَادَةِ الحُقُوقِ لأصحَابِهَا؟ هل نَتَوَجَّهُ إلى اللهِ تعالى في السَّعْيِ جَاهِدِينَ لإطفَاءِ نَارِ هذهِ الفِتنَةِ؟ هل نَتَوَجَّهُ إلى اللهِ تعالى صَادِقِينَ بالدُّعَاءِ وطَلَبِ المَغفِرَةِ والعِتقِ من النَّارِ؟
نَسأَلُكَ يا رَبَّنَا أن تَغفِرَ لَنَا وتَرحَمَنَا وتُعتِقَ رِقَابَنَا من النَّارِ، لأنَّكَ القَائِلُ في كِتَابِكَ العَظِيمِ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. ولأنَّكَ القَائِلُ في كِتَابِكَ العَظِيمِ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾.
اُختُمُوا شَهرَ رَمَضَانَ بالاستِغفَارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ عَلَينَا أن نَختِمَ جَمِيعَ طَاعَاتِنَا بالاستِغفَارِ، والسَّعِيدُ من وُفِّقَ لِخَتْمِ حَيَاتِهِ عِندَ مَوتِهِ بالاستِغفَارِ.
روى الإمام مسلم عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثاً وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ». فَاختُمُوا صَلاتَكُم بالاستِغفَارِ.
وإذا أكرَمَكُمُ اللهُ تعالى بالحَجِّ فَاختُمُوهُ بالاستِغفَارِ، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وإذا قَدَّمتُم عَمَلاً صَالِحَاً لأنفُسِكُم ـ والصَّومُ من الأعمَالِ الصَّالِحَةِ ـ فَاختُمُوهُ بالاستِغفَارِ، قال تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
واختُمُوا أعمَالَكُم كُلَّ يَومٍ بالاستِغفَارِ قَبلَ نَومِكُم، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾.
واختُمُوا مَجَالِسَكُم بالاستِغفَارِ، لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَفَّارَةُ الْمَجَالِسِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: كَانَ سَيِّدُنَا عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما يُصَلِّي من اللَّيلِ، ثمَّ يَقُولُ: يَا نَافِعُ، هَل جَاءَ السَّحَرُ؟
فإذا قَالَ: نَعَم؛ أَقبَلَ على الدُّعَاءِ والاستِغفَارِ حتَّى يُصبِحَ. رواه ابنُ أبي حَاتِمٍ. كذا في تَفسِيرِ ابنِ كَثِيرٍ.
اِجمَعُوا بَينَ كَلِمَةِ التَّوحِيدِ والاستِغفَارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَختِمْ شَهرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ وخَاصَّةً في يَومِهِ الأَخِيرِ بِكَلِمَةِ التَّوحِيدِ والاستِغفَارِ، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾. وسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اِسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ: فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهُمَا: فَتَسْأَلُونَ اللهَ الْجَنَّةَ وَتَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِن النَّارِ» رواه ابن خُزَيمَةَ عن سَلمَانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ كما جَاءَ في التَّرغِيبِ والتَّرهِيبِ.
إذا فَاتَكَ عِتقُ رَقَبَةٍ فَعَلَيكَ بِشَهَادَةِ التَّوحِيدِ:
أيُّها الإخوة الكرام: كَانَ بَعضُ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُعتِقُونَ رَقَبَةً في آخِرِ كُلِّ شَهرٍ، رَجَاءَ أن يُعتِقَ اللهُ رِقَابَهُم من النَّارِ، وذلكَ اعتِمَادَاً على الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الذي رواه الإمام البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِماً اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ مِن النَّارِ».
قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ: فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، فَعَمَدَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَعْتَقَهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: ومن فَاتَهُ عِتقُ رَقَبَةٍ، فلا يُفَوِّتْ من الإكثَارِ من قَولِ: لا إلهَ إلا اللهُ، فإنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ عِتقِ الرَّقَبَةِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِن الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: وَدِّعُوا شَهرَ رَمَضانَ المُبَارَكَ بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ النَّصُوحِ، وأَكثِرُوا من الاستِغفَارِ، واجمَعُوا مَعَهُ ذِكْرَ كَلِمَةِ التَّوحِيدِ، وخَاصَّةً في اللَّيلَةِ الأَخِيرَةِ مِنهُ، رَجَاءَ أن يُعتِقَ اللهُ تعالى رِقَابَنَا من النَّارِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
السبت: 28/ رمضان/1435هـ، الموافق: 26/تموز / 2014م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد
فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد
غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد
مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد
الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد