أهلا بكم في موقع الشيخ أحمد شريف النعسان

1239 - كيف يرد على من أنكر حجية التواتر؟

15-07-2008 18711 مشاهدة
 السؤال :
كيف يرد على من أنكر التواتر، وأن التواتر قد يقع على شيء غير حقيقي؟ ويستدلون بأن اليهود قد تواتر النقل عندهم على أنهم صلبوا عيسى ابن مريم وشهدوا بذلك أمام أعينهم وتناقلوه فيما بينهم، وقد أثبت الله الصلب ولكن لشبيه عيسى فقال: {وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ}، فأنكرنا الصلب لعيسى بدليل من القرآن. وبعد وفاة النبي من يضمن لنا عدم وقوع التواتر على شيء لم يكن حقيقة بل من باب الخيال والتشبيه ونحو ذلك كما وقع لعيسى، وقد قال بذلك بعض السمنية [طائفة من عبدة الأصنام] والبراهمة، وقال بعض علماء الأصول أن حجتهم بذلك قوية. كما في الكوكب المنير لابن النجار في الأصول.
 الاجابة :
رقم الفتوى : 1239
 2008-07-15

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالخبر المتواتر هو خبر عن محسوس، أخبر به جماعة، بلغوا في الكثرة مبلغاً تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه، لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم، عن قوم مثلهم، وهكذا إلى الحدث المنقول.

فظهر بهذا التعريف أن للمتواتر شروطاً، وهي:

أولاً: أن يكون قد أخبر به جماعة قد بلغوا في الكثرة عدداً كبيراً يحيل العقل معه أن يجتمعوا على الكذب في الخبر. وجمهور الشافعية على أن يكون هذا العدد فوق أربعة.

ثانياً: أن يخبروا عن علم رأوه وعاينوه بأنفسهم لا عن ظن، فإن أهل بغداد لو أخبرونا عن شخص أنهم ظنُّوه زيداً لم يحصل لنا العلمُ بكونه زيداً.

ثالثاً: أن يكون علمُهم ضرورياً مستنداً إلى محسوس، أي يمكن إدراكه بالحواس، فلا يكون التواتر بالإخبار عن شيء غير محسوس. ومعنى كون علمهم ضرورياً أن يحصل العلم عند سماعه أو رؤيته من غير احتياج إلى نظر، لتعدد مشاربهم، وتعدد ديارهم، وعدم استفادتهم استفادة شخصية مما يروونه، وإلا رد خبرهم، مثل رد خبر من شهدوا برؤية هلال العيد وهم جميعا من الجزارين الذي لهم مصلحة في ثبوت العيد في ذلك اليوم لبيع ما ذبحوه من المواشي خشية فسادها عند عدم ثبوته، وحصول العلم بمضمون ذلك الخبر من غير شبهة.

رابعاً: أن يستوي طرفاه ووسطه في هذه الصفات وفي كمال العدد، بحيث تكون هذه الصفات ـ من كثرة العدد، والإخبار عن علم، وأن يكون عن محسوس، وعدم شبهة المصلحة الخاصة لهم ـ متوفِّرة في كل عصر، فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الأعصار، ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر، لم يحصل العلم اليقيني بصدقهم؛ لأن خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه، فلا بد فيه من اجتماع الشروط.

وبناء على ذلك:

فما ذُكر من نقل النصارى واليهود قتلَ المسيح وصلبَه فهو وهم، لأن النقل المتواتر لم يوجد في ذلك، فإن النصارى إنما نقلوا ذلك عن أربعة نفر كانوا مع المسيح في بيت، إذ كان الحواريون قد اختفوا أو تفرَّقوا حين همَّ اليهود بقتلهم، وإنما بقي مع المسيح أربعة نفر هم: يوحنا، ويوقنا، ومتن، ومارقيش، ويتحقق من هؤلاء الأربعة التواطؤ على ما هو كذب لا أصل له، وقد ذكرنا أن من شرط التواتر أن يستوي طرفاه ووسطه في العدد الذي يستحيل عادة أن يتفقوا على الكذب.

وأما اليهود الذين ادعوا قتل المسيح وصلبه فأيضاً نقلوا ذلك عن سبعة نفر أو تسعة كانوا دخلوا البيت الذي كان فيه المسيح، وأولئك يتحقق منهم التواطؤ على الكذب. وقد روي أنهم كانوا لا يعرفون المسيح حقيقةً، حتى دلَّهم عليه رجل يقال له: يهوذا، وكان يصحبه قبل ذلك، فجعلوا له ثلاثين درهماً، وقال لهم: إذا رأيتموني أقبِّل رجلاً فاعلموا أنه صاحبكم، وبمثل هذا العدد المبني نقله على الظن لا يحصل التواتر.

فإن قيل: الصلب قد شاهده جماعة لا يتصور منهم التواطؤ على الكذب عادة، فيتحقق ما هو حد التواتر في الأخبار بصلبه.

فالجواب عن هذا: أن فعل الصلب إنما تناوشه عدد قليل من الناس، ثم سائر الناس يعتمدون خبرهم في أن المصلوب فلان، وينظرون إليه بعد ذلك من غير تأمُّلٍ فيه، لأن الطباع تنفر عن التأمل في المصلوب، وأيضاً قد يتغير فيه شيء بعد الصلب فيمكن أن يُشْتَبَه فيه، وذكرنا أن من شرط التواتر أن يخبر هذا العدد عن علم يقيني لا عن ظن، وبذلك لم يتحقق التواتر لا في قتله ولا في صلبه.

وقد جاء في الخبر أن عيسى عليه السلام قال لمن كان معه: من يريد منكم أن يلقي الله شبهي عليه فيقتل وله الجنة؟ فقال رجل: أنا، فألقى الله تعالى عليه شَبَهَ عيسى فقُتِل، ورُفع عيسى إلى السماء. وهذا غير مستَبْعَد في قدرة الله عز وجل، ويكون ذلك معجزةً يؤيِّد بها رسله وأنبياءه، وقد ظهر إبليس عليه اللعنة مرة في صورة شيخ من أهل نجد، ومرة في صورة سراقة بن مالك وكلَّم المشركين فيما كانوا همُّوا به في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِين}، ورأت السيدة عائشة رضي الله عنها دحية الكلبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أخبرته بذلك قال: كان معي جبريل عليه السلام، ورأى ابنُ عباس رضي الله عنهما جبريل أيضاً في صورة دحية الكلبي، فعرفنا أن هذا غير مستبعَد في زمن الرسل.

وبناء على ما تقدَّم، فالتواتر أمر حقيقي وليس وهماً، ولا يمكن أن يقع على شيء غير حقيقي، والاعتراض بنقل اليهود والنصارى قتل المسيح عليه السلام اعتراض مردود. هذا، والله تعالى أعلم.

 

المجيب : الشيخ أحمد شريف النعسان
18711 مشاهدة