10ـ دروس رمضانية لعام 1436: الخسارة الحقيقية ضياع العمل

10ـ دروس رمضانية لعام 1436: الخسارة الحقيقية ضياع العمل

 

 10ـ دروس رمضانية لعام 1436: الخسارة الحقيقية ضياع العمل

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أيُّها الإخوة الكرام:

يَقُولُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟ أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَفْتَحَ أَقْفَالَ قُلُوبِنَا بِذِكْرِهِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِتَدَبُّرِ القُرْآنِ العَظِيمِ وَمَعَانِيهِ.

وَمِنَ الآيَاتِ التِي يَجِبُ عَلَينَا أَنْ نَتَدَبَّرهَا هِيَ قَوْلُهُ تَعَالى لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنَاً﴾.

الآمِرُ هُوَ اللهُ تَعَالى، والمَأمُورُ هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالمُنَبِّئُ لَنَا هُوَ اللهُ تَعَالى ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾.

حَقِيقَةُ الخَسَارَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: مَا هِيَ حَقِيقَةُ الخَسَارَةِ؟ مَن هُوَ الخَاسِرُ؟ بَل مَن هُوَ أَخْسَرُ النَّاسِ؟ هَل هُوَ مَنْ خَسِرَ تِجَارَتَهُ؟ هَلْ هُوَ مَنْ خَسِرَ مَالَهُ؟

الكَثِيرُ لَا يُفَكِّرُ إِلَّا فِي خَسَارَةِ الدُّنيَا، وَهَذَا هُوَ حَدِيثُ النَّاسِ اليَومَ، الحَدِيثُ عَنِ ارْتِفَاعِ الأَسْعَارِ، الحَدِيثُ عَن الخَسَائِرِ ـ خَسَائِرِ التُّجَّارِ ـ الحَدِيثُ عَنِ ارْتِفَاعِ العُمْلَةِ الأَجنَبِيَّةِ، وَهُبُوطِ العُمْلةِ المَحَلِيَّةِ.

هَل هَذِهِ هِيَ الخَسَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ أيُّها الإخوة الكرام؟

قَطعَاً لَيسَت هَذِهِ هِيَ الخَسَارَةَ الحَقِيقِيَّةَ، لِأنَّ خَسَائِرَ الدُّنيَا تُعَوَّضُ بَينَ حِينٍ وَآخَرَ، كَم خَسِرْتَ ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ رَبِحْتَ، وَكَم رَبِحْتَ ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ خَسِرْتَ؟ فَهَذِهِ لَيسَتْ هِيَ الخَسَارَةَ الحَقِيقِيَّةَ.

بَلْ قَد تَكُونُ نَتِيجَةُ هَذِهِ الخَسَارَةِ الدُنيَوِيَّةِ نِعْمَةً مِن نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَليْكَ إِنْ صَبَرْتَ عَلَيهَا، أَلَم يَقُلْ مَولَانَا عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾؟ ألم يَأْمُرْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نُبَشِّرَ أَصْحَابَ هَذِه الاِبتِلَاءَاتِ والخَسَارَاتِ بِقَولِهِ تَعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾؟

بِأيِّ شَيءٍ نُبَشِّرُ مَن ابتَلَاهُ اللهُ تَعالى ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾؟

نُبَشِّرُهُ بِقَولِهِ تَعالى: ﴿أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون﴾. فَأيُّ خَسَارَةٍ إِذَا كَانَت هَذِهِ هِيَ النَّتِيجَةَ؟

كَلِمَةٌ لِلتُّجَّارِ:

بِهذِهِ المُنَاسَبَةِ أَقُولُ للإِخوَةِ التُّجَّارِ الذِينَ يَزِيدُونَ فِي الأَسعَارِ بِدُونِ شَفَقَةٍ وَلَا رَحمَةٍ: أَيُّها التَّجَّارُ، اِتَّقُوا اللهَ تَعَالى فِي المُسلِمِينَ، وَانظُرُوا إِلى سَوَادِ المُسلِمِينَ، فَسَوَادُ المُسلِمِينَ مِنَ العُمَّالِ والمُوظَّفِينَ، أَينَ رَحمَتُكُم بِعِبَادِ اللهِ تَعالى؟

لَا تُفَكِّرُوا فَقَط فِي أَربَاحِكُم وَتِجَارَتِكُم، وَلَا تَجعَلُوا حِسَابَاتِكُم فِي البَيْعِ والشِّرَاءِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الدُّولَارِ، اِرحَمُوا عِبَادَ اللهِ يَا عِبَادَ اللهِ.

أيُّها التَّجَّارُ، يَا مَن جَعَلَ حِسَابَاتِهِ عَلى العُملةِ الأَجنَبِيَّةِ، هَل خَطَرَ فِي بَالِكَ أَنْ تُفكِّرَ فِي أَجْرِ الصَّانِعِ عِنْدَكَ، وَحَوَّلتَ لَهُ أُجرَتَهُ عَلَى العُمْلَةِ الأَجنَبِيَّةِ، مَا سَمِعتُ أيُّهَا الإِخوَةُ أَنَّ وَاحِداً مِنَ التُّجَّارِ مَن فَعَلَ ذَلِكَ، بَل سَمِعتُ الكَثِيرَ الكَثِيرَ مِمَّن صَرَفَ العُمَّالَ مِن عِنْدِهِ.

أيُّها الإخوة الكرام: يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ، يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَد عَن عَبدِ اللهِ بنَ عَمرُو بنَ العَاص رَضِيَ اللهُ عَنهُم.

الخَسَارَةُ الحقيقيَّةُ ضَيَاعُ العَمَلِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لِنُصدِّقِ اللهَ تَعَالى فِي نِبِأِ الخَاسِرِينَ، بَل الأَخسَرِينَ، يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً﴾.

فَالأَخسَرُونَ أَعمَالَاً هُم مَن اتَّصَفُوا بِصِفَتَينِ:

الصِّفَةُ الأُولَى: قَوْلُهُ تعالى: ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾:

اِعلِمُوا أيُّها الإِخوَةُ الكِرَامُ، أنَّ ضَلَالَ السَّعيِ فِي الدُّنيا سَبَبُهُ ضَلالٌ فِي العَقِيدَةِ، فَلَوْ لَمْ تَكُن عَقِيدَتُهُ فَاسِدَةً وَفِيهَا خَلَلٌ مَا ضَلَّ سَعْيُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا، لَأنَّ العَقِيدَةَ الفَاسِدَةَ تُدَمِّرُ وَلَا تُعَمِّرُ، وَتَجعَلُ صَاحِبَهَا فِي ضَلالٍ فِي سَعْيِهِ؛ وإِذَا أَرَدْتُم مِصْدَاقَ هَذَا:

فَاقرَؤُوا قَولَ اللهِ تَعَالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. فَالمُؤمِنُ حَقَّاً لَا يَجتَرِئُ عَلى الرِّبَا مَعَ وُجُودِ الإِيمَانِ.

وَمَا أَكثَرَ الرِّبَا اليَومَ فِي المُجتَمَعِ، وَلَا تَقْصُرُوا الرِّبَا عَلى المُعَامَلَاتِ مَعَ البُنُوكِ الرِّبَوِيَّةِ، بَلْ عَمَّتْ فِي أَسوَاقِ المُسلِمِينَ إِلَّا مَن رَحِمَ اللهُ تَعالى، دَائنٌ يُطالِبُ مَدينَهُ بِفارِقِ العُمْلَةِ قِيَاسَاً عَلى العُمْلَةِ الأَجْنَبِيَّةِ، وَهَذا نَوعٌ مِن أَنوَاعِ الرِّبا. هذا أولاً.

ثانياً: اِسْمَعُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الذي يُبيِّنُ فيهِ بأنَّ ضَلالَ السَّعْيِ في الدُّنيَا سَبَبُهُ ضَعْفُ الإيمانِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. مَن صَحَّتْ عَقِيدَتُهُ وكَمُلَ إِيمَانُهُ صَحَّ سُلُوكُهُ، وإلا ضَلَّ سَعْيُهُ والعِيَاذُ باللهِ تعالى.

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً﴾:

أما الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ للأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، فَهِيَ أَنَّهُم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً، وما ظَنُّوا حُسْنَ أَعْمَالِهِم وَأَفْعَالِهِمُ المُخَالَفَةِ للشَّرْعِ إلا بِسَبَبِ جَهْلِهِم في دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

نَحْنُ أمَّةُ القِرَاءَةِ، نَحْن أُمَّةٌ أَنْزَلَ اللهُ تعالى أَوَّلَ آيَةٍ لها على قَلْبِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هي قَوْلُهُ تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق﴾. وَلَكِنَّ أُمَّةَ القِرَاءَةِ هيَ أَجْهَلُ الأُمَمِ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى، جَهْلٌ في دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، جَهْلٌ في سِيرَةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، جَهْلٌ في الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَمَلٌ بِدُونِ عِلْمِ، والنَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعَاً، زَيَّنَتْ لَهُم أَنْفُسُهُمُ الأَعْمَالَ فَانْقَادُوا لها بِدُونِ الرُّجُوعِ إلى أَهْلِ العِلْمِ والفِقْهِ والفَتْوَى، وإنَّ اتِّبَاعَ الأَهْوَاءِ والشَّهَوَاتِ جَرِيمَةُ الجَرَائِمِ، يُصْبِحُ فِيهَا العَبْدُ ضَالَّاً وهوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُحسِنٌ ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَعْطَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَمُوذَجَاً في القُرْآنِ العَظِيمِ لِرَجُلَيْنِ، أَحَدُهُما عَالِمٌ، والآخَرُ جَاهِلٌ مُتَّبِعٌ لِنَفْسِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانَاً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِين﴾.

اُنظُروا إلى كَلامِ العَالِمِ العَامِلِ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِين * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِين﴾.

أمَّا الجَاهِلُ المُتَّبِعُ لِأَهْوَائِهِ وَنَفْسِهِ فَقَالَ تعالى عَنهُ: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين﴾. عَلِّمُوا هذا النَّمُوذَجَ لِأَبْنَائِكُمُ الذينَ هُم في الخِدْمَةِ الإِلْزَامِيَّةِ.

المَقْتُولُ رَابِحٌ وَلَيْسَ بِخَاسِرٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: تَدَبَّرُوا جَيِّدَاً قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِين﴾. كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّ المَقْتُولَ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً رَابِحٌ وَلَيْسَ بِخَاسِرٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، إِنْ كَانَ من المُؤْمِنِينَ ومن أَهْلِ الصَّلَاحِ؛ اِطْمَئِنُّوا أيُّها الإخوة الكرام، أنَّ المَقْتُولَ في بَلَدِنَا وفي سَائِرِ بِلادِ المُسْلِمِينَ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً هوَ رَابِحٌ وَلَيْسَ بِخَاسِرٍ.

أمَّا القَاتِلُ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً فَهُوَ الخَاسِرُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ وَإِنْ كَانَ صَائِمَاً ومُصَلِّيَاً، وإِنْ كَانَ في ظَاهِرِ الأَمْرِ مُؤْمِنَاً، لأنَّ قَتْلَهُ الآخَرِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ هوَ من ضَلالِ السَّعْيِ في الدُّنيَا، وما كَانَ هذا الضَّلالُ إلا لِضَلالٍ في العَقِيدَةِ أو لِضَعْفٍ في الإِيمَانِ، كَيْفَ يَجْتَرِئُ على القَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وهوَ يَقْرَأُ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُّتَعَمِّدَاً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدَاً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابَاً عَظِيمَاً﴾؟

المتَّبِعُ لا يَضِلُّ في سَعْيِهِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ المُتَّبِعَ للهُدَى الذي جَاءَ بهِ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لا يَضِلُّ سَعْيُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا، قَالَ تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدَىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾.

فَمَن ضَلَّ سَعْيُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا، مَا ضَلَّ إلا بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِ عن القُرْآنِ العَظِيمِ، وكم قُلْتُ لَكُم أَيُّهَا الإخوة الكرام الحِكْمَةَ العَطَائِيَّةَ: من عَلَامَاتِ النُّجْحِ في النِّهَايَاتِ، الرُّجُوعُ إلى اللهِ في البِدَايَاتِ؟

لِنَرْجِعْ إلى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِنْ كُنَّا حَرِيصِينَ على الهُدَى، وَلْنَلْتَزِمْ بها ولو خَالَفَتِ الأَهْوَاءَ والشَّهَوَاتِ والعَوَاطِفَ، فاللهُ تعالى أَمَرَنَا بالالْتِزَامِ بهذا القُرْآنِ في سَائِرِ الأَحْوَالِ، وفي المَنشَطِ والمَكرَهِ، وإلا فَسَعْيُ العَبدِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا في ضَلالٍ.

نَتِيجَةُ الأَخسَرينَ أَعْمَالاً:

أيُّها الإخوة الكرام: أَرْجِعُ إلى الآيَةِ الكَرِيمَةِ مَرَّةً أُخْرَى، يَقُولُ تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنَاً﴾.

فَالخَسَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ هيَ إِحْبَاطُ العَمَلِ، وهذا الأَمْرُ يَنْطَبِقُ على الحَاكِمِ والمَحْكُومِ، فَمَن كَانَ حَرِيصَاً على أَنْ لا يَكُونَ من الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، فَعَلَيهِ بالمُحَافَظَةِ على أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وليَتَذَكَّرْ قَولَ اللهِ تعالى في حَقِّ الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورَاً﴾. وقَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئَاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَاب * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورَاً فَمَا لَهُ مِن نُّور﴾.

وتَذَكَّرُوا أيُّها الإخوة الكرام، حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عِنْدَمَا قَالَ لِأَصْحَابِهِ الكِرَامِ: «أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ؟».

قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ.

فَقَالَ: «إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه الإمام مسلم عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

اُنْظُرُوا إلى مُفْرَدَاتِ هذا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، وَأَسْقِطُوهُ على الوَاقِعِ، الشَّتمُ قَائِمٌ بَينَ النَّاسِ، والقَذفُ سَهُلَ على كَثِيرٍ من الأَلْسُنِ، أَمَّا ضَرْبُ الأَبْرِيَاءِ الذينَ يُطَالِبُونَ بِحُرِّيَّاتِهِم فَحَدِّثْ عَنهُ بلا حَرَجٍ، والأَسْوَأُ من هذا سَفكُ الدِّمَاءِ البَرِيئَةِ، فالمُسْلِمُونَ يَقْتُلُ بَعْضُهْم بَعْضَاً ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام:  لِنَرْجِعْ إلى كِتَابِ اللهِ تعالى، اِلْتَزِمُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾. أَرْجِعُوا ذلكَ إلى اللهِ تعالى ورَسُولِهِ إِنْ صَحَّتْ عَقِيدَتُكُم، وإلا فَأَنْتُم في ضَلالِ السَّعْيِ.

أُنَاشِدُكمُ اللهَ تعالى، أُنَاشِدُكمُ اللهَ تعالى حُكَّامَاً وَمَحْكُومِينَ، تَدَبَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينَاً﴾. وإلا فَالعَاقِبَةُ وَخِيِمَةٌ.

ولا أقصِدُ بالعَاقِبَةِ الوَخِيمَةِ دَمَارَ البِلادِ، بَلْ أَقْصِدُ بالعَاقِبَةِ الوَخِيمَةِ تِلكَ التي رَتَّبَهَا اللهُ تعالى للأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنَاً﴾.

لقد سَمِعْنَا كَثِيرَاً مِمَّن يَطْعَنُ في بَعْضِ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ، وَيَطْعَنُ في بَعْضِ أَحَادِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وصَارَ البَعْضُ الآخَرُ يَسْتَهْزِئُ ويَسْخَرُ بها وبالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لأَنَّهَا لَمْ تُوَافِقْ هَوَاهُ، وهذهِ هيَ فِتْنَةُ الدِّينِ والعِيَاذُ باللهِ تعالى.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 18/ رمضان /1433هـ، الموافق: 5/ تموز/ 2015م

 2015-07-05
 1172
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  دروس رمضانية

14-03-2024 322 مشاهدة
1-مواساة لأصحاب الأعذار في رمضان

يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد

 14-03-2024
 
 322
26-05-2022 693 مشاهدة
28ـ غزوة بدر وحسرة المشركين

فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد

 26-05-2022
 
 693
26-05-2022 516 مشاهدة
27ـ غزوة بدر درس عملي لكل ظالم ومظلوم

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد

 26-05-2022
 
 516
29-04-2022 386 مشاهدة
26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 386
29-04-2022 817 مشاهدة
25ـ هنيئًا لكم أيها الصائمون القائمون

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد

 29-04-2022
 
 817
29-04-2022 920 مشاهدة
24ـ أقوام عاشوا عيش السعداء

الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 920

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412796796
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :