.
475ـ خطبة الجمعة: حقيقة يوم الحسرة
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا عباد الله: لَقَد قَسَتْ مِنَّا القُلُوبُ فلا تَرَى فِيهَا رَحْمَةً، وَتَحَجَّرَتِ العُيُونُ فلا تَرَى فِيهَا دَمْعَةً خَشْيَةً من اللهِ تعالى، وَهُجِرَ كِتَابُ اللهِ عزَّ وجلَّ سُلُوكَاً وعَمَلاً، فَقَرَأْنَاهُ والقُلُوبُ لاهِيَةٌ سَاهِيَةٌ في وِدْيَانِ هذهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا.
تَرَانَا نَقْرَأُ القُرْآنَ العَظِيمَ في مَآتِمِنَا على مَوْتَانَا، ولا نُحَكِّمُهُ فِينَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ، جَعَلْنَاهُ بَرَكَةً في حَمْلِهِ وتِلاوَتِهِ، وَتَرَكْنَا البَرَكَةَ الحَقِيقِيَّةَ المُتَمَثِّلَةَ بالائْتِمَارِ بِأَوَامِرِهِ، وبالازْدِجَارِ عَن زَوَاجِرِهِ، وَنَسِينَا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
كَثُرَ القَلَقُ والهَمُّ والحُزْنُ:
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد كَثُرَ القَلَقُ والهَمُّ والحُزْنُ، بِسَبَبِ مَكْرِنَا بِبَعْضِنَا البَعْضِ لَيْلاً وَنَهَارَاً، وَفَشَتِ الكَبَائِرُ والمَظَالِمُ، فَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ، وَسُلِبَتِ الأَمْوَالُ، وَهُجِّرَ النَّاسُ، وَفُرِّقَ بَيْنَ الوَالِدِ وَوَلَدِهِ، وَبَيْنَ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ، وَبَيْنَ الحَبِيبِ وَحَبِيبِهِ، وَنَسِينَا يَوْمَ الحَسْرَةِ الذي قَالَ فِيهِ مَوْلانَا عزَّ وجلَّ مُخَاطِبَاً سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد أَنْذَرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحَسْرَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالْـمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ؛ فَـيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ.
فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟
فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْـمَوْتُ؛ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ.
ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ؛ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ.
فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟
فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْـمَوْتُ؛ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ.
فَيُذْبَحُ؛ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.
ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾. وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا ﴿وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾».
حَقِيقَةُ يَوْمِ الحَسْرَةِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: الإِيمَانُ باللهِ تعالى وباليَوْمِ الآخِرِ الذي هُوَ يَوْمُ الحَسْرَةِ، هُوَ اليَوْمُ الذي يَمْسَحُ على قُلُوبِ المُسْتَضْعَفِينَ المَقْهُورِينَ المَظْلُومِينَ المُشَرَّدِينَ مَسْحَةَ يَقِينٍ تَسْكُنُ مَعَهُ قُلُوبُهُم، وَهِيَ تَتَطَلَّعُ لِمَا أَعَدَّهُ اللهُ تعالى للصَّابِرِينَ من نَعِيمٍ يُنْسَى مَعَهُ كُلُّ ضُرٍّ وَبَلاءٍ وَشَقَاءٍ وَعَنَاءٍ ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْـمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: الإِيمَانُ باللهِ تعالى وباليَوْمِ الآخِرِ الذي هُوَ يَوْمُ الحَسْرَةِ، هُوَ اليَوْمُ الذي يَمْسَحُ على قُلُوبِ المَكْلُومِينَ الذينَ احْتَرَقَتْ قُلُوبُهُم، وَهِيَ تَتَطَلَّعُ إلى مَا أَعَدَّهُ اللهُ تعالى للظَّالِمِينَ من بُؤْسٍ وَشَقَاءٍ، وَيُنْسِيهِم كُلَّ هَنَاءٍ كَانُوا يَعِيشُونَهُ في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا حَسَبَ الظَّاهِرِ، قَالَ تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾. وقَالَ تعالى عَنْهُم: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾. وقَالَ تعالى عَنْهُم: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْـمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحَاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾. وقَالَ تعالى عَنْهُم: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنَاً كَبِيرَاً﴾. وقَالَ تعالى عَنْهُم: ﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يا عباد الله: الإِيمَانُ باللهِ تعالى وباليَوْمِ الآخِرِ الذي هُوَ يَوْمُ الحَسْرَةِ، يُرِيحُ كُلَّ صَاحِبِ قَلْبٍ مَوْجُوعٍ، يُرِيحُ كُلَّ عَبْدٍ مَظْلُومٍ، يُرِيحُ كُلَّ عَبْدٍ مَقْهُورٍ، إِذَا كَانَ صَابِرَاً مُحْتَسِبَاً مُتَّقِيَاً، وَذَلِكَ من خِلالِ قَوْلِهَِ تعالى في حَقِّ كُلِّ ظَالِمٍ فَاجِرٍ: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعَاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ باللهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾.
ومن خِلالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمَاً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾.
ومن خِلالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمَاً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾.
ومن خِلالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْـمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوَاً وَلَعِبَاً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾.
يَا رَبِّ عَجِّلْ بِتَفْرِيجِ كُرُوبِنَا، وَعَجِّلْ بِشِفَاءِ صُدُورِنَا، ولا تَنْزَعِ الرَّحْمَةَ من قُلُوبِنَا، وَاخْتِمْ بالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ آجَالَنَا وَأَعْمَالَنَا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 19/ ربيع الثاني /1437هـ، الموافق: 29/كانون الثاني / 2016م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد