483ـ خطبة الجمعة: «اليَوْمَ يَوْمُ المَرْحَمَةِ»

483ـ خطبة الجمعة: «اليَوْمَ يَوْمُ المَرْحَمَةِ»

.

483ـ خطبة الجمعة: «اليَوْمَ يَوْمُ المَرْحَمَةِ»

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لا يُوجَدُ في النَّاسِ السَّابِقِينَ ولا اللَّاحِقِينَ مَنْ يُقَارِبُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في خُلُقِ الوَفَاءِ، لَقَد عُرِفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَبلَ النُّبُوَّةِ بالصَّادِقِ الأَمِينِ، وَمِمَّا لا شَكَّ فِيهِ بِأَنَّ خُلُقَ الوَفَاءِ من صِفَاتِ الصَّادِقِ الأَمِينِ، وَإِذَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَفِيَّاً قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَبَعْدَ النُّبُوَّةِ من بَابِ أَوْلَى وَأَوْلَى.

يَا عِبَادَ اللهِ: خُلُقُ الوَفَاءِ يُرَسِّي دَعَائِمَ الثِّقَةِ في الأَفْرَادِ، وَيُؤَكِّدُ أَوَاصِرَ التَّعَاوُنِ في المُجْتَمَعِ، خُلُقُ الوَفَاءِ من شِيَمِ الصَّادِقِينَ العَادِلِينَ، خُلُقُ الوَفَاءِ يَخْتَصُّ بِهِ الإِنْسَانُ العَاقِلُ، لِأَنَّهُ من فَقَد خُلُقَ الوَفَاءِ فَقَد انْسَلَخَ من إِنْسَانِيَّتِهِ.

تَأْخِيرُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لِأَدَاءِ الأَمَانَاتِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد عَلَّمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الـبَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ كَيْفَ يَكُونُ وَفَاءُ المُؤْمِنِ للنَّاسِ جَمِيعَاً، وَلَو كَانُوا من أَلَدِّ الأَعْدَاءِ، وَعَلَّمَهَا كَيْفَ يَكُونُ الوُدُّ لِأَهْلِ البَلَدِ وَلَو رَمَوْهُ عَن قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَّمَهَا كَيْفَ تَكُونُ الثِّقَةُ والصِّدْقُ والفُتُوَّةُ.

كَانَتْ قُرَيْشٌ رَغْمَ عِدَائِهَا لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَرَمْيِهَا لَهُ عَن قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، لا تَضَعُ شَيْئَاً ثَمِينَاً يُخْشَى عَلَيْهِ إلا عِنْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِثِقَتِهَا بِهِ، فَكَانَ عِنْدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الشَّيْءُ الكَثِيرُ من هَذِهِ الوَدَائِعِ، وَأَرَادَ الهِجْرَةَ، فَمَاذَا يَصْنَعُ بِهَذِهِ الأَمَانَاتِ التي عِنْدَهُ لِهَؤُلاءِ الذينَ مَكَرُوا بِهِ؟ أَيَغْدِرُ بِهِم؟ حَاشَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

لَقَد خَلَّفَ سَيِّدَنَا عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَن الهِجْرَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الوَدَائِعَ التي كَانَتْ عِنْدَهُ للنَّاسِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيْنَ نَحْنُ من هَذَا الخُلُقِ خُلُقِ الوَفَاءِ لِأَهْلِ بَبلَدِنَا؟

واللهِ لَقَد فَضَحَتِ الأَزْمَةُ الكَثِيرَ من النَّاسِ، وَأَظْهَرَتِ الوَفِيَّ من الغَادِرِ، والأَمِينَ من الخَائِنِ، والصَّادِقَ من الكَاذِبِ، والمُؤْمِنَ من المُنَافِقِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ بِالإِمْكَانِ أَنْ تَتَصَوَّرُوا هَذَا المَوْقِفَ العَظِيمَ؛ القَوْمُ يَأْتَمِرُونَ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَجْتَمِعُونَ على بَابِهِ لِقَتْلِهِ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هَذَا الظَّرْفِ القَاسِي مَا كَانَ لِيَنْسَى أَو يَنْشَغِلَ عَن رَدِّ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا، حَتَّى وَلَو كَانَ في أَصْعَبِ الظُّرُوفِ التي تُنْسِي الإِنْسَانَ نَفْسَهُ فَضْلاً عَن غَيْرِهِ، فَقَد أَبَى أَنْ يَخُونَ ـ وَحَاشَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الخِيَانَةِ ـ مَن ائْتَمَنَهُ، وَلَو كَانَ عَدُوَّاً يُحَرِّضُ عَلَيْهِ وَيُؤْذِيهِ، لِأَنَّ خِيَانَةَ الأَمَانَةِ من صِفَاتِ المُنَافِقِينَ، فَأَيْنَ نَحْنُ من خُلُقِ الوَفَاءِ لِأَهْلِ بَلَدِنَا؟

نَزْعُ الرَّايَةِ من سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد عَلَّمَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَكُونُ الوَفَاءُ للبَلَدِ وَلِأَهْلِ البَلَدِ، وَهُوَ في حَالِ القُوَّةِ والغَلَبَةِ، لا في حَالَةِ الضَّعْفِ.

روى البَيْهَقِيُّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ نَادَى أَبَا سُفْيَانَ ـ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ـ: اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الحُرْمَةُ.

فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ في المُهَاجِرِينَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَرْتَ بِقَوْمِكَ أَنْ يُقْتَلُوا؟ فَإِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ مَرُّوا بِي نَادَانِي سَعْدٌ فَقَالَ: اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الحُرْمَةُ؛ وَإِنِّي أُنَاشِدُكَ اللهَ في قَوْمِكَ.

فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَعَزَلَهُ، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ مَكَانَهُ على الأَنْصَارِ مَعَ المُهَاجِرِينَ.

وفي رِوَايَةٍ لابنِ عَسَاكِرَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اليَوْمَ يَوْمُ المَرْحَمَةِ، اليَوْمَ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشَاً».

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ هِيَ مَبَادِئُ الإِسْلامِ، وَتِلْكَ قِيَمُهُ الرَّفِيعَةُ، وَهَذَا هُوَ تَارِيخُهُ المـُضِيءُ، وَهَذِهِ هِيَ حَضَارَتُهُ السَّامِيَةُ، فَأَيْنَ نَحْنُ من هَذَا الوَفَاءِ لِبَلَدِنَا وَلِأَهْلِ بَلَدِنَا؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ هِيَ سِيرَةُ سَيِّدِ الخَلْقِ وَحَبِيبِ الحَقِّ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هَذَا هُوَ خُلُقُ الوَفَاءِ للوَطَنِ وَلِأَهْلِ الوَطَنِ، هَذَا هُوَ خُلُقُ الوَفَاءِ للوَطَنِ الذي عَاشَ فِيهِ أَكْثَرَ من خَمْسِينَ عَامَاً، هَذَا هُوَ خُلُقُ الوَفَاءِ لِأُنَاسٍ عَاشَ مَعَهُم أَكْثَرَ من عَشْرِ سِنِينَ رَغْمَ ظُلْمِهِم وَعَدَاوَتِهِم لَهُ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ.

هَذَا هُوَ خُلُقُ الوَفَاءِ لِأُنَاسٍ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا تُجَاهَهُ، وَتُجَاهَ أَصْحَابِهِ، لَقَد وَقَفُوا جَمِيعَاً بَيْنَ يَدَيْهِ كَالأَسَارَى، فَقَالَ لَهُم:

«يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَقُولُونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُم؟».

قَالُوا: خَيْرَاً، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.

قَالَ: «فَإِنِّي أَقُولُ لَكُم كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾. اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ». كَذَا في كِتَابِ الشِّفَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتَعَلَّمْ خُلُقَ الوَفَاءِ للوَطَنِ وَلِأَهْلِ الوَطَنِ رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ، لَعَلَّنَا نَقْطَعُ دَابِرَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ الذينَ يَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوَائِرَ.

اللَّهُمَّ لا تُشَمِّتْ أَعْدَاءَنَا بِدَائِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 16/ جمادى الآخرة /1437هـ، الموافق: 25/آذار / 2016م

 2016-03-25
 1781
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 2 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 2
12-04-2024 620 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 620
09-04-2024 545 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 545
04-04-2024 676 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 676
28-03-2024 567 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 567
21-03-2024 999 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 999

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412704030
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :