52ـ ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (1)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ تَحَدَّثْنَا في دُرُوسٍ مَاضِيَةٍ أَنَّهُ مِنَ البِرِّ بِالوَالِدَيْنِ أَدَاءُ الحَجِّ عَنْهُمَا، وَالصِّيَامِ عَنْهُمَا، وَبَعْضُ العُلَمَاءِ قَالَ: بِالصَّلَاةِ عَنْهُمَا، وَأَدَاءُ النَّذْرِ عَنْهُمَا، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ عَنْهُمَا، إلى آخِرِ الحُقُوقِ التي تَجِبُ عَلَى الأَبْنَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ.
وَعَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ الأُمُورِ يَنْتَفِعُ بِهَا المَيْتُ، سَوَاءٌ فُعِلَتْ عَنْهُ أَمْ وُهِبَتْ لَهُ، وَلَكِنْ قَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: هَذَا يُعَارِضُ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
حَيْثُ نَصَّ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الإِنْسَانِ يَنْقَطِعُ، إِلَّا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ المَذْكُورَاتِ.
التوفيق بين الأحاديث:
وَالجَوَابُ عَنْ هَذَا التَّعَارُضِ بَيْنَ النُّصُوصِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الحَدِيثَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، إِنَّمَا يَنُصُّ عَلَى انْقِطَاعِ عَمَلِ نَفْسِ الإِنْسَانِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ المَذْكُورَاتِ، أَمَّا هَذِهِ الأَحَادِيثُ فَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ الإِنْسَانِ نَفْسِهِ، وَالعَمَلُ لِعَامِلِهِ، فَإِذَا وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ، وَصَلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ ذَلِكَ العَمَلِ بِإِذْنِ اللهِ تعالى، فَافْتَرَقَا.
فَهِيَ إِذَاً زَائِدَةٌ عَمَّا في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَحَالُهُ في ذَلِكَ كَالمُتَبَرِّعِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ عَنِ المَيْتِ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إلى المَيْتِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ المَيْتُ لَا يَمْلِكُ المَالَ المُتَبَرَّعَ بِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَا جَاءَ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَا يُفِيدُ الحَصْرَ، لِأَنَّهُ عَدَدٌ، وَقَدْ جَاءَ في أَحَادِيثَ أُخْرَى بَيَانُ ذِكْرِ أُمُورٍ أُخْرَى يَسْتَمِرُّ انْتِفَاعُ المَيْتِ بِهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمَاً عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدَاً صَالِحَاً تَرَكَهُ، وَمُصْحَفَاً وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدَاً بَنَاهُ، أَوْ بَيْتَاً لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرَاً أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ».
وروى البيهقي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَبْعَةٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمَاً، أَوْ كَرَى نَهَرَاً، أَوْ حَفَرَ بِئْرَاً، أَوْ غَرَسَ نَخْلَاً، أَوْ بَنَى مَسْجِدَاً، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفَاً، أَوْ تَرَكَ وَلَدَاً يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ».
قَالَ الإِمَامُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَهُمَا ـ يُرِيدُ الحَدِيثَيْنِ هَذَا وَالسَّابِقَ ـ لَا يُخَالِفَانِ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ ـ يُرِيدُ حَدِيثَ «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ ......» ـ فَقَدْ قَالَ فِيهِ: «إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ» وَهِيَ تَجْمَعُ مَا قَدْ جَاءَ بِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ. اهـ.
فَهَذِهِ المَذْكُورَاتُ في الحَدِيثَيْنِ (عِلْمٌ، وَلَدٌ صَالِحٌ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، نَهْرٌ أَجْرَاهُ، بِئْرٌ حَفَرَهُ، نَخْلٌ غَرَسَهُ، مُصْحَفٌ وَرَّثَهُ، بَيْتٌ للغَرِيبِ بَنَاهُ، وَبِنَاءُ مَسْجِدٍ) كُلُّهُا تَدْخُلُ في الصَّدَقَةِ الجَارِيَةِ، عَدَا الوَلَدِ الصَّالِحِ، وَهُوَ مِنْ كَسْبِ أَبِيهِ.
وَهُنَاكَ أُمُورٌ أُخْرَى غَيْرُهَا، وَقَدْ نَظَمَ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إِحْدَى عَشْرَةً مِنْهَا:
إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ لَيْسَ يَجْرِي *** عَـلَـيْــــــــهِ مِنْ فِعَالٍ غَيْرُ عَشْرِ
عُـلُـومٌ بَـثَّـهَـا وَدُعَـاءُ نَجْلٍ *** وَغَرْسُ النَّخْلِ وَالصَّدَقَاتُ تَجْرِي
وِرَاثَةُ مُـصْحَفٍ وَرِبَاطُ ثَغْرٍ *** وَحَفْرُ الْبِئْرِ أَوْ إجْـــــــــرَاءُ نَهْرِ
وَبَيْتٌ لِلْغَرِيبِ بَنَاهُ يَــــأْوِي *** إلَيْهِ أَوْ بِنَاءُ مَحِلِّ ذِكْــــــــــــــرِ
وَتَعْلِيمٌ لِقُرْآنٍ كَرِيـــــــــمٍ *** فَخُذْهَا مِنْ أَحَادِيثَ بِحَصْــــــرِ
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَبِهَذَا يَتَّضِحُ وَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الخُصُوصُ، وَبَيْنَ تِلْكَ الأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَهَذِهِ الأَحَادِيثِ أَيْضَاً.
اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمَنَا بِرَّ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأحد: 15/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 13/ تشرين الأول / 2019م
ارسل إلى صديق |
مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُخَاطِبَهُمَا بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخَاطِبَهُمَا بِالعِبَارَاتِ الحَادَّةِ، وَالكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، وَالغِلْظَةِ ... المزيد
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى ... المزيد
حُقُوقُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِحًا أَمِينًا لَهُمَا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَخَاصَّةً ... المزيد
هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ ... المزيد
مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا. كَيْفَ لَا يَكُونُ ... المزيد
مِنْ فَوَائِدِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ كَمَالُ الإِيمَانِ، وَحُسْنُ الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَهُوَ سَبَبٌ في بَرَكَةِ العُمُرِ، ... المزيد