22- الإمام النووي رَحِمَهُ اللهُ تعالى

22- الإمام النووي رَحِمَهُ اللهُ تعالى

22- الإمام النووي رَحِمَهُ اللهُ تعالى

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَلَقَد رَأَيْتُ لِزَامَاً عَلَيَّ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِقِرَاءَةِ كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ للإِمَامِ الجَلِيلِ، وَالعَارِفِ بِاللهِ تعالى، التَّقِيِّ النَّقِيِّ الصَّالِحِ المُخْلِصِ المُخْلَصِ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الإِمَامِ أَبِي زَكَرِيَّا مُحْيِي الدِّينِ يَحْيَى بْنِ شَرَفَ النَّوَوِيِّ الدِّمَشْقِيِّ مُحَرِّرِ المَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُهَذِّبِهِ وَمُحَقِّقِهِ وَمُرَتِّبِهِ، إِمَامِ أَهْلِ عَصْرِهِ عِلْمَاً وَعِبَادَةً، وَسَيِّدِ أَوَانِهِ وَرَعَاً وَسِيَادَةً، العَلَمُ المُفْرَدُ، سَيِّدُ العُبَّادِ بَيْنَ العُلَمَاءِ، وَسَيِّدُ العُلَمَاءِ بَيْنَ العُبَّادِ، وَزَاهِدُ المُحَقِّقِينَ، وَمُحَقِّقُ الزُّهَّادِ.

أَنْ نَقْرَأَ تَرْجَمَةَ هَذَا العَالِمِ الرَّبَّانِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَرَضِيَ عَنَّا مَوْلَانَا بِجَاهِهِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَتَنَزَّلُ الرَّحَمَاتُ، وَلَعَلَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُكْرِمُنَا بِأَنْ نَسِيْرَ سَيْرَ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الذينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، فَعَاشُوا عَلَى ذَلِكَ، وَمَاتُوا عَلَى ذَلِكَ، فَهَنِيئَاً لَهُمْ، وَهَنِيئَاً لِمَنْ سَارَ سَيْرَهُمْ، وَنَهَجَ نَهْجَهُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ.

اسْمُهُ وَلَقَبُهُ وَكُنْيَتُهُ وَمَوْلِدُهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

هُوَ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا مُحْيِي الدِّينِ، يَحْيَى بْنُ شَرَفِ بْنِ مُرِّي بْنِ حَسَنَ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُمُعَةَ بْنِ حِزَامٍ النَّوَوِيِّ، وَقِيلَ النَّوَاوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً وَاسِعَةً.

كَانَ مَوْلِدُهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مِنْ هِجْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بِمَدِينَةِ نَوَى التَّابِعَةِ لِدِمَشْقَ في بِلَادِ الشَّامِ المُبَارَكَةِ.

قَالَ تَاجُ الدِّينِ السَّبْكِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

لَـقِـيتِ خَيْرَاً يَا نَوَى   ***   وَوُقِيــــتِ مِنْ أَلَمِ النَّوَى

فَـلَـقَـدْ نَشَا بِكِ عَالِمٌ   ***   للهِ أَخْــلَـصَ مَــا نَــوَى

وَعَـلَى سِـوَاهُ فَـضْلُهُ   ***   فَضْلَ الحُبُوبِ عَلَى النَّوَى

نَشْأَتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ:

لَقَد عَاشَ إِمَامُنَا رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كَنَفِ أَبِيهِ وَرِعَايَتِهِ، وَكَانَ وَالِدُهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى مَسْتُورَ الحَالِ، مُبَارَكَاً لَهُ في رِزْقِهِ، فَنَشَأَ في سَتْرٍ وَخَيْرٍ وَبَرَكَةٍ.

قَالَ عَنْهُ ابْنُ العَطَّارِ ـ وَهُوَ أَحَدُ تَلَامِيذِهِ ـ: ذَكَرَ لِي الشَّيْخُ يَاسِين بْنُ يُوسُفَ الدِّمَشْقِيِّ وَلِيُّ اللهِ، رَحِمَهُ اللهُ تعالى، قَالَ: رَأَيْتُ الشَّيْخَ مُحْيِي الدِّينِ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ بِنَوَى وَالصِّبْيَانُ يُكْرِهُونَهُ عَلَى اللَّعِبِ مَعَهُمْ، وَهُوَ يَهْرُبُ مِنْهُمْ، وَيَبْكِي لِإِكْرَاهِهِمْ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ في تِلْكَ الحَالِ، فَوَقَعَ في قَلْبِي مَحَبَّتُهُ، وَجَعَلَهُ أَبُوهُ في دُكَّانٍ، فَجَعَلَ لَا يَشْتَغِلُ بِالبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَنِ القُرْآنِ، فَأَتَيْتُ الذي يُقْرِئُهُ القُرْآنَ فَوَصَّيْتُهُ بِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: هَذَا الصَّبِيُّ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَأَزْهَدَهُمْ، وَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِ.

فَقَالَ لِي: أَمُنَجِّمٌ أَنْتَ؟

فَقُلْتُ: لَا، وَإِنَّمَا أَنْطَقَنِي اللهُ بِذَلِكَ.

فَذَكَرَ ذَلِكَ لِوَالِدِهِ، فَحَرِصَ عَلَيْهِ إلى أَنْ خَتَمَ القُرْآنَ، وَقَدْ نَاهَزَ الاحْتِلَامَ. /طبقات الشافعية الكبرى للسبكي.

قَدِمَ بِهِ وَالِدُهُ إلى مَدِينَةِ دِمَشْقَ وَعُمُرُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ سَنَةً، حَيْثُ بَدَأَ رِحْلَتَهُ في طَلَبِ العِلْمِ، فَسَكَنَ في الرَّوَاحِيَّة، وَاشْتَغَلَ بِالعِلْمِ.

حَجُّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ:

بَعْدَ نَحْوِ سَنَتَيْنِ مِنْ قُدُومِ النَّوَوِيِّ إلى دِمَشْقَ، صَحِبَهُ أَبُوهُ إلى الحَجِّ.

يَقُولُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ (أَيْ: 651هـ) حَجَجْتُ مَعَ وَالِدِي، وَكَانَتْ وَقْفَةَ جُمُعَةٍ، وَكَانَ رَحِيلُنَا مِنْ أَوَّلِ رَجَبٍ.

قَالَ: فَأَقَمْتُ بِمَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَحْوَاً مِنْ شَهْرٍ وَنِصْفٍ.

وَقَالَ ابْنُ العَطَّارِ: قَالَ لِي وَالِدُهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لَمَّا تَوَجَّهْنَا مِنْ نَوَى للرَّحِيلِ أَخَذَتْهُ الحُمَّى فَلَمْ تُفَارِقْهُ إلى يَوْمِ عَرَفَةَ.

قَالَ: وَلَمْ يَتَأَوَّهْ قَطُّ، فَلَمَّا قَضَيْنَا المَنَاسِكَ وَوَصَلْنَا إلى نَوَى، وَنَزَلَ إلى دِمَشْقَ، صَبَّ اللهُ عَلَيْهِ العِلْمَ صَبَّاً، وَلَمْ يَزَلْ يَشْتَغِلْ بِالعِلْمِ وَيَقْتَفِي آثَارَ شَيْخِهِ المَذْكُورِ ـ يَقْصِدُ الشَّيْخَ المَرَاكِـشِيِّ ـ في العِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَصِيَامِ الدَّهْرِ وَالزُّهْدِ وَالوَرَعِ وَعَدَمِ إِضَاعَةِ شَيْءٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ إلى أَنْ تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

مَكَانَتُهُ العِلْمِيَّةُ:

لَقَد بَرَعَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ في شَتَّى صُنُوفِ العِلْمِ، مِنْ فِقْهٍ وَحَدِيثٍ وَلُغَةٍ، وَاشْتُهِرَ بِالزُّهْدِ وَالتَّقْوَى وَالوَرَعِ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَالنُّصْحِ للأَئِمَّةِ.

قَالَ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فَبِهِ ثَبَّتَ اللهُ أَرْكَانَ المَذْهَبِ وَالقَوَاعِدَ، وَبَيَّنَ مُهِمَّاتِ الـشَّرْعِ وَالمَقَاصِدَ.

وَقَالَ أَيْضَاً: أَثْنَى عَلَيْهِ المُوَافِقُ وَالمُخَالِفُ، وَقَبِلَ كَلَامَهُ النَّائِي وَالآلِفُ، وَشَاعَ ثَنَاؤُهُ الحَسَنُ بَيْنَ المَذَاهِبِ. اهـ.

وَلَقَد خَتَمَ حِفْظَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَقَدْ نَاهَزَ الاحْتِلَامَ.

وَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: حَفِظْتُ كِتَابَ التَّنْبِيهِ ـ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الكُتُبِ الخَمْسَةِ المَشْهُورَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرُهَا تَدَاوُلَاً ـ في نَحْوِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، وَحَفِظْتُ رُبُعَ العِبَادَاتِ مِنَ المُهَذَّبِ ـ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَهُوَ أَشْهَرُ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ في فُرُوعِ المَذْهَبِ وَتَفْصِيلَاتِهِ، يَمْتَازُ بِالتَّبْوِيبِ المُتْقَنِ ـ في بَاقِي السَّنَةِ.

حِينَ اسْتَقَرَّ النَوَّوِيُّ في المَدْرَسَةِ الرَّوَاحِيَّةِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ في مَسْجِدِهِ أَقْبَلَ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ بِكُلِّ مَا فِي قَلْبِهِ وَعَقْلِهِ مِنْ شَغَفٍ وَجِدٍّ وَاسْتِعْدَادٍ، وَلَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَضْرِبَ المَثَلِ، وَمَثَارَ العَجْبِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَبَقِيتُ سَنَتَيْنِ لَمْ أَضَعْ جَنْبِي عَلَى الأَرْضِ.

وَيَقُولُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَضُرِبَ بِهِ المَثَلُ في إِكْبَابِهِ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ لَيْلَاً وَنَهَارَاً، وَهَجْرِهِ النَّوْمَ إِلَّا عَنْ غَلَبَةٍ، وَضَبْطِ أَوْقَاتِهِ بِلُزُومِ الدَّرْسِ أَو الكِتَابَةِ أَو المُطَالَعَةِ أَو التَّرَدُّدِ عَلَى الشُّيُوخِ.

وَذَكَرَ قُطْبُ الدِّينِ اليُونِينِيُّ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَضِيعُ لَهُ وَقْتٌ في لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا في وَظِيفَةٍ مِنَ الاشْتِغَالِ بِالعِلْمِ، حَتَّى إِنَّهُ في ذَهَابِهِ في الطَّرِيقِ وَإِيَابِهِ يَشْتَغِلُ في تَكْرَارِ مَحْفُوظَةٍ أَو مُطَالَعَةٍ، وَإِنَّهُ بَقِيَ عَلَى التَّحْصِيلِ عَلَى هَذَا الوَجْهِ سِتَّ سِنِينَ.

وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ وَعُمْدَةِ المُفْتِينَ: فَإِنَّ الاشْتِغَالَ بِالعِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ القُرَبِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَهَمِّ أَنْوَاعِ الخَيْرِ وَآكَدِ العِبَادَاتِ، وَأَوْلَى مَا أُنْفِقَتْ فِيهِ نَفَائِسُ الأَوْقَاتِ، وَشَمَّرَ في إِدْرَاكِهِ وَالتَّمَكُّنِ فِيهِ أَصْحَابُ الأَنْفُسِ الزَّكِيَّاتِ، وَبَادَرَ إلى الاهْتِمَامِ بِهِ المُسَارِعُونَ إلى المَكْرُمَاتِ، وَسَارَعَ إلى التَّحَلِّي بِهِ مُسْتَبِقُو الخَيْرَاتِ، وَقَدْ تَظَاهَرَ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ جُمَلٌ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ الكَرِيمَاتِ، وَالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّبَوِيَّةِ المَشْهُورَاتِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلى الإِطْنَابِ بِذِكْرِهَا هُنَا لِكَوْنِهَا مِنَ الوَاضِحَاتِ الجَلِيَّاتِ.

ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ في أَوَّلِ طَلَبِهِ للعِلْمِ يَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ دَرْسَاً عَلَى المَشَايِخِ شَرْحَاً وَتَصْحِيحَاً: دَرْسَيْنِ في الوَسِيطِ، وَثَالِثَاً في المُهَذَّبِ، وَدَرْسَاً في الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَخَامِسَاً في صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَدَرْسَاً في اللُّمَعِ لِابْنِ جني في النَّحْوِ، وَدَرْسَاً في إِصْلَاحِ المَنْطِقِ لِابْنِ السكيت في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَدَرْسَاً في التَّصْرِيفِ، وَدَرْسَاً في أُصُولِ الفِقْهِ تَارَةً في اللُّمَعِ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَتَارَةً في المُنْتَخَبِ لِفَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، وَدَرْسَاً في أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَدَرْسَاً في أُصُولِ الدِّينِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَكُنْتُ أُعَلِّقُ جَمِيعَ مَا يُتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ شَرْحٍ مُشَكَّلٍ، وَإِيضَاحِ عِبَارَةٍ، وَضَبْطِ لُغَةٍ، وَبَارَكَ اللهُ لِي في وَقْتِي وَاشْتِغَالِي وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ.

وَكَانَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ وَقُوَّةِ بَرَاهِينِهِ، لَا يَرَى الجِدَالَ وَلَا يُحِبُّ أَهْلَهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُمْ.

قَالَ الذَّهَبِيُّ في سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ: كَانَ مِنْ سَعَةِ عِلْمِهِ عَدِيمَ النَّظِيرِ، لَا يَرَى الجِدَالَ، وَلَا تُعْجِبُهُ المُبَالَغَةُ في البَحْثِ، وَيَتَأَذَّى مِمَّنْ يُجَادِلُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ.

مِنْ تَصَانِيفِهِ:

شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَرِيَاضُ الصَّالِحِينَ، وَالأَذْكَارُ، وَالأَرْبَعِينُ النَّوِوِيَّةُ، وَالإِرْشَادُ في عُلُومِ الحَدِيثِ، وَالتَّقْرِيبُ، وَالمُبْهَمَاتُ، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ، وَتَحْرِيرُ الأَلْفَاظِ للتَّنْبِيهِ، وَالعُمْدَةُ في تَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ، وَالإِيضَاحُ في المَنَاسِكِ، وَالتِّبْيَانُ في آدَابِ حَمْلَةِ القُرْآنِ، وَبُسْتَانُ العَاِفِينَ، وَالفَتَاوَى المُسَمَّاةُ بِالمَسَائِلِ المَنْثَورَةِ، وَالمَقَاصِدُ، وَمَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ، وَمُخْتَصَرُ أُسْدِ الغَابَةِ.

وَمِنَ المُصَنَّفَاتِ التي مَاتَ وَلَمْ يُتِمَّهَا في حَيَاتِهِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، المَجْمُوعُ، وَتَهْذِيبُ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ، وَالخُلَاصَةُ في أَحَادِيثِ الأَحْكَامِ.

وَرَعُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

يَقُولُ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ عَنِ الإِمَامِ النَّوِوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَكَانَ مَعَ تَبَحُّرِهِ في العِلْمِ، وَسَعَةِ مَعْرِفَتِهِ بِالحَدِيثِ وَالفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِمَا قَدْ سَارَتْ بِهِ الرُّكْبَانُ، رَأْسَاً في الزُّهْدِ، قُدْوَةً في الوَرَعِ.

وَقَالَ أَيْضَاً: كَانَ عَدِيمَ المِيرَةِ وَالرَّفَاهِيَّةِ وَالتَّنَعُّمِ، مَعَ التَّقْوَى وَالقَنَاعَةِ وَالوَرَعِ الثَّخِينِ، وَالمُرَاقَبَةِ للهِ في السِّرِّ وَالعَلَانِيَةِ، وَتَرْكِ رُعُونَاتِ النَّفْسِ مِنْ ثِيَابٍ حَسَنَةٍ، وَمَأْكَلٍ طَيِّبٍ، وَتَجَمُّلٍ في الهَيْئَةِ.

وَمِنْ وَرَعِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ فَاكِهَةِ دِمَشْقَ، كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَرَّخَ لَهُ.

يَقُولُ ابْنُ العَطَّارِ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهَا كَثِيرَةُ الأَوْقَافِ وَالأَمْلَاكِ لِمَنْ هُوَ تَحْتَ الحَجْرِ شَرْعَاً، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في ذَلِكَ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الغِبْطَةِ وَالمَصْلَحَةِ، وَالغِبْطَةُ لليَتِيمِ وَالمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ لَا يَفْعَلُونَهَا إِلَّا عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ للمَالِكِ، فَكَيْفَ تَطِيبُ نَفْسِي؟

وَكَانَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى نَاصِحَاً أَمِينَاً، مُلْتَزِمَاً قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» فَكَانَ نَاصِحَاً للمُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ، يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ، وَلَمْ يَخْشَ في اللهِ تعالى لَوْمَةَ لَائِمٍ بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ.

وَفَاتُهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

في الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنْ لَيْلَةِ الأَرْبَعَاءِ في الرَّابِعِ وَالعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، تُوُفِّيَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

يَقُولُ التَّاجُ السَّبْكِيُّ: لَمَّا مَاتَ النَّوَوِيُّ بِنَوَى ارْتَجَّتْ دِمَشْقُ وَمَا حَوْلَهَا بِالبُكَاءِ، وَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ أَسَفَاً شَدِيدَاً، وَأَحْيَوا لَيَالِيَ كَثِيرَةً لِسَنَتِهِ.

وَقَالَ ابْنُ العَطَّارِ: ..... فَسَارَ إلى نَوَى وَزَارَ القُدْسَ وَالخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ عَادَ إلى نَوَى، وَمَرِضَ عَقِبَ زِيَارَتِهِ لَهَا في بَيْتِ وَالِدِهِ، فَبَلَغَنِي مَرَضُهُ فَذَهَبْتُ مِنْ دِمَشْقَ لِعِيَادَتِهِ، فَفَرِحَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لِي: ارْجِعْ إلى أَهْلِكَ.

وَوَدَّعْتُهُ وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى العَافِيَةِ يَوْمَ السَّبْتِ العِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ في لَيْلَةِ الأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ وَالعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ.

وَدُفِنَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ في قَرْيَتِهِ نَوَى، وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ يُزَارٌ.

وَمِمَّا أُثِرَ مِنْ خَبَرِهِ أَنَّهُ لَمَّا دَنَا أَجَلُهُ رَدَّ الكُتُبَ المُسْتَعَارَةَ عِنْدَهُ مِنَ الأَوْقَافِ جَمِيعَهَا.

رَحِمَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَحَشَرَنَا مَعَهُ تَحْتَ لِوَاءِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

تاريخ الكلمة:

السبت: 17/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 14/ كانون الأول / 2019م

 2020-01-16
 6547
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  باب التراجم

16-01-2020 2690 مشاهدة
24ـ الإمام مالك وكتابه الموطأ

الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كَانَ مِنْ سِمَاتِهِ أَنَّهُ يُجِيبُ عَمَّا يَقَعُ، وَكَانَ تَلَامِيذُهُ يَجْتَهِدُونَ أَحْيَانَاً أَنْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الإِجَابَةِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تَقَعْ، فَلَا يُطَاوِعُهُمْ، وَلَا يُسَاقُ وَرَاءَ ... المزيد

 16-01-2020
 
 2690
16-01-2020 948 مشاهدة
23ـ ترجمة الإمام مالك رَحِمَهُ اللهُ تعالى

مَالِكٌ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيُّ بِفَتْحِ الْبَاءِ نِسْبَةً إلَى ذِي أَصْبَحَ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ. وُلِدَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ ... المزيد

 16-01-2020
 
 948
14-01-2020 942 مشاهدة
21ـ الشيخ جميل العقاد رَحِمَهُ اللهُ تعالى (1)

هُوَ الشَّيْخُ جَمِيل بْنُ الشَّيْخِ مُحَمَّد ياسين العَقَّاد، وُلِدَ في حَيِّ الجَلُّومِ بِمَدِينَةِ حَلَبَ، مِنْ أَبَوَيْنِ كَرِيمَيْنِ وَأُسْرَةٍ ذَاتِ عِلْمٍ وَدِينٍ، فَقَدْ كَانَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّد يَاسِين إِمَامَاً وَخَطِيبَاً ... المزيد

 14-01-2020
 
 942
14-01-2020 1767 مشاهدة
20ـ الشيخ محمد نجيب خياطة رَحِمَهُ اللهُ تعالى

هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّد نَجِيب بْنُ مُحَمَّد بْنِ مُحَمَّد بْنِ عُمَر خَيَّاطَة الشَّهِيرُ بِآلا، وُلِدَ في حَيِّ الجَلُّومِ بِمَدِينَةِ حَلَبَ في شَهْرِ رَمَضَانَ عَامَ 1321هـ الموافق 1905م؛ لَمْ يَكُنْ وَالِدُهُ عَالِمَاً، لَكِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ ... المزيد

 14-01-2020
 
 1767
14-01-2020 1369 مشاهدة
19ـ الشيخ أحمد المكتبي الكبير رَحِمَهُ اللهُ تعالى

هُوَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ ابْنُ الحَاجِّ مُصْطَفى بْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ الشَّيْخِ مُحَمَّد الشَّهِيرِ بِالمَكْتَبِيِّ، العَالِمُ العَامِلُ وَالجَهْبَذُ الكَامِلُ، المُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ الأُصُولِيُّ، ... المزيد

 14-01-2020
 
 1369
14-01-2020 1629 مشاهدة
18ـ الشيخ أحمد الحجار رَحِمَهُ اللهُ تعالى

هُوَ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّهَابِ أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ شَنُّون الحَجَّارُ الحَلَبِيُّ، نَشَأَ الشَّيْخُ في حِجْرِ أَبِيهِ وَكَانَ أَبُوهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، يَتَّصِلُ نَسَبُهُ بِالسَّادَةِ الأَشْرَافِ مِنْ أَهْلِ ... المزيد

 14-01-2020
 
 1629

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412689769
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :