38ـ الأزمات تحتاج انتصارًا على النفس

38ـ الأزمات تحتاج انتصارًا على النفس

38ـ الأزمات تحتاج انتصارًا على النفس

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ اليَوْمَ نَعِيشُ ظُرُوفًا قَاسِيَةً صَعْبَةً، تَسَلُّطَ أَعْدَاءٍ، فَسَادَ الفَاسِدِيْنَ، وَغَلَاءً في الأَسْعَارِ، وَحِصَاراً اقْتِصَادِياً، حَتَّى كَادَ اليَأْسُ أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَهُ في نُفُوسِ الكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ.

وَلَكِنْ مَنْ يَقْرَأُ القُرْآنَ العَظِيمَ، وَيَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ قَصَصِ القُرْآنِ الكَرِيمِ لِيَأْخُذَ العِبْرَةَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَجِدُ لِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ ظُرُوفٍ قَاسِيَةٍ مَخْرَجًا بِإِذْنِ اللهِ تعالى.

هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مَرَّ في ظُرُوفٍ قَاسِيَةٍ، وَمِحَنٍ شَدِيدَةٍ، وَلَكِنَّهُ انْتَصَرَ عَلَى كُلِّ الشَّدَائِدِ وَالمِحَنِ بِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، عِنْدَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا عَلَى نَفْسِهِ، وَمُفَوِّضًا أَمْرَهُ إلى اللهِ تعالى.

الأَزَمَاتُ تَحْتَاجُ إلى الانْتِصَارِ عَلَى النَّفْسِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: جَمِيعُ الأَزَمَاتِ تَحْتَاجُ إلى انْتِصَارِ العَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا تَحْتَاجُ الأُمَّةُ انْتِصَارًا عَلَى نَفْسِهَا إِذَا أَرَادَتِ الخُرُوجَ مِنَ الأَزَمَاتِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ أَو جَمَاعَةٍ أَو أُمَّةٍ انْتَصَرَتْ عَلَى نَفْسِهَا إِلَّا وَبِإِذْنِ اللهِ تعالى تَنْتَصِرُ عَلَى الأَزَمَاتِ وَالنَّكَبَاتِ.

هَلُمُّوا يَا إِخْوَتِي لِكَيْ نَنْظُرَ إلى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ الذي انْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ، كَيْفَ انْتَصَرَ عَلَى الأَزَمَاتِ كُلِّهَا حَتَّى مَكَّنَهُ اللهُ تعالى في الأَرْضِ ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾ وَاللهِ مَا هَذَا التَّمْكِينُ حَصَلَ إِلَّا بَعْدَ انْتِصَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ.

أولًا: مِنْ مَظَاهِرِ انْتِصَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قِصَّتُهُ مَعَ امْرَأَةِ العَزِيزِ، فَقَدِ انْـتَصَرَ فِيهَا انْتِصَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةً ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾. فَانْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ في مُرَاوَدَةِ امْرَأَةِ العَزِيزِ.

وَيُبَيِّنُ هَذَا الانْتِصَارَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذَا انْتِصَارٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ في هَذَا المَوْقِفِ: ﴿مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.

ثُمَّ انْتَصَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلِسَانِهِ بِعِفَّةِ مَنْطِقِهِ العَجِيبَةِ، لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ المَلِكُ يَطْلُبُ مِنْهُ الخُرُوجَ مِنَ السِّجْنِ في المَرْحَلَةِ الأُولَى، فَقَالَ للرَّسُولِ: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾؟

لَمْ يَقُلْ: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ عَنِ امْرَأَتِهِ التي رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، مَعَاذَ اللهِ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا، بَلْ قَالَ: ﴿مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾. مِنْ أَجْلِ أَنْ لَا يُحْرِجَهَا، وَأَنْ لَا يُحْرِجَ زَوْجَهَا.

ثانيًا: مِنْ مَظَاهِرِ انْتِصَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، عِنْدَمَا جَاءَ إِخْوَتُهُ وَقَالُوا: ﴿إِنْ يَـسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾. اتِّهَامٌ لَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهَا، كَبَرَاءَةِ الذِّئْبِ مِنْ دَمِهِ ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا﴾. أَسَرَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ في نَفْسِهِ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَا.

ثالثًا: لَقَدِ انْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عِنْدَمَا تَفَاجَأَ إِخْوَتُهُ، بِأَنَّ الذي أَمَامَهُمْ هُوَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا﴾. لَمْ يَحْمِلْ حِقْدًا بِسَبَبِ مَا حَصَلَ مِنْهُمْ، وَهَذَا شَأْنُ العَبْدِ الذي يَسِيرُ في دَرْبِ المَعَالِي، وَلَا يَنْشَغِلُ بِسَفَاسِفِ الأُمُورِ ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَأَمَّلْ بِأَحْوَالِنَا، قَدْ يُسِيءُ إِلَيْنَا بَعْضُ النَّاسِ إِسَاءَاتٍ قَدْ نَكُونُ سَبَبًا فِيهَا، أَو قَدْ نُشَارِكُ في نِسْبَةٍ مَنْ سَبَّبَ تِلْكَ الإِسَاءَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ نَعْجِزُ عَنِ العَفْوِ وَالصَّفْحِ، بَلِ الأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ عَفَوْنَا وَصَفَحْنَا أَتْبَعْنَا ذَلِكَ بِالإِسَاءَةِ عَنْ طَرِيقِ المَنِّ بِعَفْوِنَا وَصَفْحِنَا.

أَيْنَ نَحْنُ مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: ﴿تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.؟ دُونَ تَأْنِيبٍ، وَدُونَ عَذْلٍ، وَدُونَ سِجْنٍ، تَسَامُحٌ، وَصَفْحٌ، وَعَفْوٌ، بِدُونِ مَنٍّ وَلَا أَذًى.

وَإِنَّ الـذي بَـيْـنِي وَبَـيْنَ بَنِي أَبِي   ***   وَبَـيْـنَ بَـنِـي عَـمِّي لَـمُخْتَلِفٌ جِدَّا

وَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لَحُومَهُمْ   ***   وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَـهُــمْ مَجْدَا

وَلا أَحْمِلُ الحِقْدَ الَقَدِيمَ عَـلَـيْـهِمُ   ***   وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحِقْدَا

اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْوَائِنَا وَشَهَوَاتِنَا. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 8/ ذو القعدة /1441هـ، الموافق: 29/ حزيران / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 335 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 335
31-07-2023 366 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 366
08-05-2023 595 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 595
19-04-2023 455 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 455
14-04-2023 335 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 335
11-04-2023 412 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 412

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413625666
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :