721ـ خطبة الجمعة: داء عصرنا وعلاجه

721ـ خطبة الجمعة: داء عصرنا وعلاجه

721ـ خطبة الجمعة: داء عصرنا وعلاجه

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ مَا ذَاقَ النَّاسُ أَمَرَّ مِنَ المَعَاصِي، وَلَا تَجَرَّعُوا أَخْبَثَ وَلَا أَشَدَّ وَلَا أَنْكَى مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَحَاوَلَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ تَنَاسِيَ المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ مَا أَفْلَحُوا، بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ تَمَامًا، لَقَدْ تَجَرَّعُوا كَأْسَ الأَلَمِ وَالقَلَقِ وَالخَوْفِ وَالقُنُوطِ وَاليَأْسِ، وَالبُعْدِ عَنِ الوَاحِدِ الأَحَدِ الفَرْدِ الصَّمَدِ، لِأَنَّ سُنَّةَ اللهِ تعالى في خَلْقِهِ أَنَّهُ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ زَادَهُ قُرْبًا وَأُنْسًا وَطُمَأْنِينَةً، وَأَبْعَدَ عَنْهُ الهَمَّ وَالغَمَّ وَالخَوْفَ وَالحُزْنَ وَالقُنُوطَ وَاليَأْسَ، وَأَمَّا مَنِ ابْتَعَدَ عَنْهُ أَشْقَاهُ وَأَضْنَاهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

دَاءُ العَصْرِ الهَمُّ وَالغَمُّ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى سَعَتِهَا وَكِبَرِهَا تُصْبِحُ لَا تَسَعُ الإِنْسَانَ وَلَا تَكْفِيهِ إِذَا ضَاقَ صَدْرُهُ، وَسَكَنَ الهَمُّ وَالغَمُّ قَلْبَهُ، فَتَرَاهُ لَا يَدْرِي مَاذَا يَصْنَعُ، وَلَوْلَا بَقِيَّةٌ بَاقِيَةٌ مِنْ إِيمَانِهِ لَقَتَلَ نَفْسَهُ وَانْتَحَرَ.

نَعَمْ، لَقَدِ انْتَشَرَ هَذَا البَلَاءُ بَلَاءُ الهَمِّ وَالغَمِّ مَعَ بَلَاءِ الوَبَاءِ الذي سَلَّطَهُ اللهُ تعالى عَلَى العِبَادِ حَتَّى أَصْبَحَ بَعْضُهُمْ يَشْتَكِي مِنَ الضِّيقِ وَالهَمِّ وَالشُّعُورِ بِالقَلَقِ وَعَدَمِ الطُّمَأْنِينَةِ مِنْ بَلَاءِ الوَبَاءِ، حَتَّى أُنْشِئَتِ العِيَادَاتُ النَّفْسِيَّةُ التي لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً مِنْ قَبْلُ.

لَو تَسَاءَلْنَا مَعَ أَنْفُسِنَا: مَا هُوَ السِّرُّ في ذَلِكَ؟

السِّرُّ في ذَلِكَ يَا عِبَادَ اللهِ، هُوَ ضَعْفُ الإِيمَانِ، وَالبُعْدُ عَنْ مَنْهَجِ اللهِ تَبَارَكَ وَتعالى، وَتَرْكُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَفِعْلُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ، لَقَدْ تَرَكَ الكَثِيرُ الطَّاعَاتِ وَالفَرَائِضَ وَالوَاجِبَاتِ، وَاجْتَرَأُوا عَلَى المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ وَالمُنْكَرَاتِ، حَتَّى سَلَّطَ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ هَذَا البَلَاءَ، بَلَاءَ الوَبَاءِ وَبَلَاءَ ضِيقِ الصَّدْرِ وَالهَمِّ وَالغَمِّ.

عِلَاجُ هَذَا الدَّاءِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ انْشِرَاحَ الصَّدْرِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ رَاحَةِ القَلْبِ وَنَفْيِ الهَمِّ وَالغَمِّ عَنْهُ، وَبِهِ يُرْفَعُ البَلَاءُ، وَذلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنُورِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ ظُلْمَةِ المَعَاصِي وَالأَوْزَارِ، وَالاسْتِعْدَادِ للمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ.

روى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْإِيمَانَ إِذَا دَخَلَ الْقَلْبَ انْفَسَحَ لَهُ الْقَلْبُ وَانْشَرَحَ» وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ آيَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟

قَالَ: «نَعَمْ، الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْمَوْتِ».

وَهَلِ النُّورُ يَدْخُلُ القَلْبَ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ وَتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ؟

نَعَمْ، أَسْبَابُ رَاحَةِ القَلْبِ وَنَفْيِ الهَمِّ وَالغَمِّ عَنْهُ، وَبِهِ يُرْفَعُ البَلَاءُ هُوَ التَّمَسُّكُ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، روى الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: عِلَاجُ دَائِنَا العَوْدَةُ إلى رَبِّنَا، عِلَاجُ الهَمِّ وَالغَمِّ، وَعِلَاجُ البَلَاءِ، عَوْدَتُنَا إلى اللهِ تعالى، وَالالْتِزَامُ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ الدُّعَاءُ، فَوَاللهِ الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا مِنْ عَبْدٍ يُصِيبُهُ هَمٌّ أَو غَمٌّ أَو كَرْبٌ أَو بَلَاءٌ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ صَادِقًا إلى رَبِّهِ طَالِبًا مِنْهُ إِزَالَةَ الهَمِّ وَالغَمِّ وَتَفْرِيجَ الكَرْبِ إِلَّا زَالَ هَمُّهُ وَجَاءَهُ الفَرَجُ، روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟

قَالَ: «أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ».

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

سَهِرَت أَعْـيُنٌ وَنَــامَتْ عُـيُـونُ    ***   في أُمُـورٍ تَـكُـونُ أَو لَا تَكُونُ

فَـادْرَأِ الهَمَّ مَا اسْتَطَعتَ عَنِ النَّفْـ   ***   ـسِ فَحِمْلَانُكَ الهُمُومَ جُنُونُ

إِنَّ رَبَّـاً كَـفَـاكَ بِـالأَمْـسِ مَا كَانَ   ***   سَيَكْفِيكَ في غَـدٍ مَـا يَــكُونُ

يَا رَبُّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 24/ ذو الحجة /1441هـ، الموافق: 14/آب / 2020م

 2020-08-14
 6911
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 160 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 160
12-04-2024 806 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 806
09-04-2024 600 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 600
04-04-2024 708 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 708
28-03-2024 612 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 612
21-03-2024 1083 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1083

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413285284
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :