44ـ جمع الشمل بإذن الله تعالى

44ـ جمع الشمل بإذن الله تعالى

44ـ جمع الشمل بإذن الله تعالى

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّ الفَرَجَ آتٍ بَعْدَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» رواه الحاكم عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ جَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ» رواه الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعَلِّمُنَا بِأَنَّ اشْتِدَادَ الأَزْمَةِ في سُنَنِ اللهِ تعالى تَعْنِي قُرْبَ انْبِلَاجِ الفَجْرِ، كَمَا قِيلَ:

اشْتَدِّي أَزْمَةُ تَنْفَرِجِي   ***   قَدْ آذَنَ لَيْلُكِ بِالبَلَجِ

هَذَا سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عَظُمَ رَجَاؤُهُ وَزَادَ أَمَلُهُ عِنْدَمَا أُخِذَ ابْنُهُ الثَّانِي بِنْيَامِينَ وَتَخَلَّفَ وَلَدُهُ الكَبِيرُ بِعَوْدَةِ وَلَدِهِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.

﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: بَعْدَ أَنْ تَوَلَّى سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَوْلَادِهِ، وَشَكَا بَثَّهُ وَحُزْنَهُ إلى اللهِ تعالى، وَقَالَ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾. تَوَجَّهَ إلى أَبْنَائِهِ مُخَاطِبًا إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

نَادَاهُمْ بِنِدَاءِ الأُبُوَّةِ الكَرِيمَةِ العَطُوفَةِ، طَالِبًا مِنْهُمْ أَنْ يَذْهَبُوا في الأَرْضِ مُقْتَفِينَ أَخْبَارَ أَخَوَيْهِمْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَالذَّهَابَ إِمَّا في بِقَاعِ الأَرْضِ بَاحِثِينَ، وَإِمَّا إلى أَرْضِ مِصْرَ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، لِأَنَّ شَقِيقَ يُوسُفَ كَانَ في مِصْرَ بِلَا مُنَازِعٍ، فَالمَعْنَى: اذْهَبُوا إلى أَرْضِ مِصْرَ ﴿فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾.

التَّحَسُّسُ هُوَ التَّعَرُّفُ بِالحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، أَيْ: فَتَعَرَّفُوا الأُمُورَ عَنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَتَتَبَّعُوا آثَارَهُمَا وَأَخْبَارَهُمَا، وَلَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَفَرَجِهِ ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾. أَيْ: إِنَّهُ لَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَفَرَجِهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ الذينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ سَرَّاءُ طَغَوْا في البِلَادِ، وَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ ضَرَّاءُ كَفَرُوا، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾.

فَرَجَاءُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَذْهَبْ أَبَدًا وَلَو اشْتَدَّتِ المِحَنُ، وَزَادَ الابْتِلَاءُ، وَهَذَا شَأْنُ المُؤْمِنِ بِاللهِ تعالى، لَا يَعْرِفُ اليَأْسَ وَلَا القُنُوطَ، بَلْ هُوَ مُتَفَائِلٌ وَمُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ تعالى، وَلَيْسَ مُتَوَاكِلًا.

جَمْعُ الشَّمْلِ بِإِذْنِ اللهِ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: امْتَثَلَ الأَبْنَاءُ أَمْرَ وَالِدِهِمْ، وَتَوَجَّهُوا إلى مِصْرَ، وَدَخَلُوا عَلَى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ﴾.

لَقَدْ نَادَوْهُ نِدَاءً يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ وَبِمَكَانَتِهِ التي صَارَ بِهَا عَزِيزَ مِصْرَ، وَخَاطَبُوهُ بِذَلِكَ مُتَلَطِّفِينَ طَالِبِينَ عَطْفَهُ وَرِفْدَهُ ﴿مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ﴾. وَهُوَ الضَّرَرُ الذي يُصِيبُ الجِسْمَ في دَاخِلِهِ، وَذَلِكَ الضُّرُّ الذي أَصَابَهُمْ سَبَبُهُ الجُوعُ ﴿وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾. أَيْ: مَرْدُودَةٍ مَدْفُوعٍ عَنْهَا، لِرَدَاءَتِهَا وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، أَيْ: وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُقْبَلَ، بَلْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُزْجَى وَتُدْفَعَ ﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ﴾. مَعَ أَنَّ الثَّمَنَ الذي نُقَدِّمُهُ بِضَاعَةٌ مُزْجَاةٌ ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا﴾. أَيْ: تَصَدَّقْ بِهَذَا الوَفَاءِ وَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ﴿إِنَّ اللهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ﴾. يَعْنِي: اطْلُبْ مِنَ اللهِ تعالى وَلَا تَطْلُبْ عِوَضًا مِنَّا.

وَهُنَا آنَ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ الصِّدِّيقُ الرَّفِيقُ الشَّفِيقُ الصَّالِحُ أَنْ يُظْهِرَ شَخْصَهُ مَعَ مَا مَنَّ اللهُ تعالى بِهِ عَلَيْهِ ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾؟

اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ تَذْكِيرِيٌّ، فَقَالُوا مُؤَكِّدِينَ وَمُتَأَكِّدِينَ: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾. أَكَّدُوا أَنَّهُ يُوسُفُ بِـ ﴿إِنَّ﴾ المُؤَكِّدَةِ، وَبِاللَّامِ وَبِأَنْتَ، فَقَالَ لَهُمْ: ﴿أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَلْ يَلِيقُ بِالإِنْسَانِ المُؤْمِنِ بَعْدَ سَمَاعِ مَوْقِفِ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ يَائِسًا قَانِطًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى مَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الابْتِلَاءَاتُ؟

يَا رَبُّ، عَافِيَتُكَ أَوْسَعُ لَنَا.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 4/ صفر /1442هـ، الموافق: 21/ أيلول / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 331 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 331
31-07-2023 361 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 361
08-05-2023 588 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 588
19-04-2023 454 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 454
14-04-2023 333 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 333
11-04-2023 406 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 406

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412913087
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :