5ـ أم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام (2)

5ـ أم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام (2)

5ـ أم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام (2)

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ أُمُّ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ هِيَ صُورَةٌ مُضِيئَةٌ مِنْ صُوَرِ العِفَّةِ وَالطَّهَارَةِ، السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ هِيَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ المُتَرَتِّبَةُ عَلَى ذَلِكَ: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾.

نَعَمْ، اخْتَارَهَا اللهُ تعالى لِتَكُونَ أُسْوَةً وَقُدْوَةً لِكُلِّ أُمٍّ، وَلِكُلِّ مُرَبِّيَةٍ، وَلِكُلِّ طَاهِرَةٍ، اخْتَارَهَا اللهُ تعالى لِأَنَّهَا ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾.

فَيَا أُخْتَاهُ، وَيَا أُمَّاهُ، وَيَا أَيَّتُهَا الأُمُّ المُرَبِّيَةُ، كُونِي مَرْيَمَ العَصْرِ، كُونِي قُدْوَةً لِغَيْرِكِ بِالاسْتِقَامَةِ، وَبِالعَفَافِ وَالطُّهْرِ وَالنَّقَاءِ.

﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتِ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ مُلْتَزِمَةً بَيْتَ رَبِّهَا وَمِحْرَابَهَا، وَبِبَرَكَةِ اسْتِقَامَتِهَا خَرَقَ اللهُ تعالى لَهَا العَوَائِدَ، فَكَانَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

يَا مَنْ تَشْكِينَ العُنُوسَةَ، يَا مَنْ تَتَأَلَّمِينَ لِأَنَّكِ لَمْ تُخْطَبِي إلى الآنَ، كُونِي عَلَى حَذَرٍ مِنَ التَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ، وَالخُرُوجِ في الشَّوَارِعِ وَالأَسْوَاقِ، وَأَنْ تَطْمَعِي أَنْ يَرَاكِ مَنْ يُعْجَبُ بِكِ، فَيَطْلُبُ الزَّوَاجَ مِنْكِ، الْتَزِمِي بَيْتَكِ وَمِحْرَابَكِ وَأَبْشِرِي بِالخَيْرِ، فَكَمَا رَزَقَ اللهُ تعالى السَّيِّدَةَ مَرْيَمَ الرِّزْقَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ، فَسَيَرْزُقُكِ الزَّوْجَ الصَّالِحَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِتَسْمَعْ نِسَاؤُنَا كَيْفَ تَكُونُ العِفَّةُ وَالطَّهَارَةُ مِنْ خِلَالِ هَذَا المَشْهَدِ المُوغِلِ في القِدَمِ، وَالذي يُجَسِّدُهُ القُرْآنُ العَظِيمُ بِأَلْفَاظٍ تَجْعَلُهُ حَيًّا شَاخِصًا مُتَجَسِّدًا كَأَنَّهُ يَحْدُثُ أَمَامَ أَعْيُنِنَا.

عِنْدَمَا فُوجِئَتِ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ بِالمَلَكِ بِصُورَةِ بَشَرٍ سَوِيٍّ، اضْطَرَبَتْ وَارْتَاعَتْ وَاسْتَعَاذَتْ بِاللهِ تعالى قَائِلَةً: ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾. وَوَضَّحَ لَهَا المَلَكُ مُهِمَّتَهُ فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾.

وَهُنَا تَسْتَغْرِبُ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ وَتَقُولُ: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾؟ تَأَثُّرًا مِنْهَا بِنَظَرِيَّةِ الأَسْبَابِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ قَدْ مَسَّهَا بِزَوَاجٍ، وَلَمْ تَكُ بَغِيًّا ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾.

وَجَاءَ الرَّدُّ مِنَ اللهِ تعالى عَنْ طَرِيقِ المَلَكِ: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾. وَهُنَا اسْتَسْلَمَتْ لِأَمْرِ اللهِ تعالى المَقْضِيِّ وَقَدَرِهِ المَحْتُومِ، حَتَّى إِذَا أَحَسَّتِ الجَنِينَ يَتَقَلَّبُ في رَحِمِهَا، وَيَا لَهُ مِنْ إِحْسَاسٍ تُعَانِيهِ عَذْرَاءُ طَاهِرَةٌ نَقِيَّةُ السُّمْعَةِ، هُنَالِكَ أَشْفَقَتْ مِنَ الفَضِيحَةِ وَالعَارِ، فَانْتَبَذَتْ بِحَمْلِهَا مَكَانًا قَصِيًّا، فَلَمَّا أَجَاءَهَا المَخَاضُ إلى جِذْعِ نَخْلَةٍ وَوَضَعَتْ وَلِيدَهَا.

قَالَ تعالى مُجَسِّدًا لَنَا هَذَا المَوْقِفَ: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾.

لَمْ يَشْفَعْ لَهَا مَا عَرَفَ القَوْمُ مِنْ عِفَّتِهَا وَطَهَارَتِهَا، وَلَمْ يُنْقِذْهَا مِنْ إِفْكِهِمْ مَا بَدَا مِنْ وَلِيدِهَا مِنْ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، بَلْ رَمَوْهَا بِالإِثْمِ وَقَالُوا عَلَيْهَا بُهْتَانًا عَظِيمًا، فَصَبَرَتْ وَتَجَلَّدَتْ لِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ، رَاضِيَةً بِمَا هُوَ أَقْسَى مِنَ المَوْتِ في سَبِيلِ وَلَدِهَا المَوْعُودِ بِالمَجْدِ العَظِيمِ.

عِنْدَمَا قَالَ لَهَا قَوْمُهَا: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ أَشَارَتْ إِلَيْهِمْ لِيَسْمَعُوا مِنْ هَذَا الغُلَامِ حَقِيقَةَ الأَمْرِ: ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾. وَهُنَا نَطَقَ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في المَهْدِ الكَلِمَةَ الأُولَى التي دَلَّتْ عَلَى عُبُودِيَّتِهِ للهِ تعالى فَقَالَ: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أُمُّ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَمُوذَجٌ لِكُلِّ امْرَأَةٍ أَرَادَتِ العِفَّةَ وَالطُّهْرَ.

اللَّهُمَّ اسْتُرْ أَعْرَاضَنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 12/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 29/ تشرين الأول / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع أمهاتنا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

12-01-2024 149 مشاهدة
37ـ الطاهرة سيدة الشعب

وَدَعُونَا الآنَ نَتَتَبَّعُ جَانِبًا مِنَ السِّيرَةِ العَطِرَةِ لِهَذِهِ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ، وَصَبْرِهَا وَاحْتِسَابِهَا وَحُبِّهَا وَحَدْبِهَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ في ... المزيد

 12-01-2024
 
 149
30-12-2023 168 مشاهدة
36ـ صلاتها مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَقْرَبَ مَا تَكُونُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تُتَابِعُهُ، وَتَقْتَدِي بِهِ، وَتَسْمَعُ مِنْهُ وَتَحْفَظُ لَهُ، وَتَسْعَى ... المزيد

 30-12-2023
 
 168
24-11-2023 242 مشاهدة
35ـ البشرى

حُبِّبَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخَلْوَةُ، فَكَانَ يَذْهَبُ إلى غَارِ حِرَاءٍ يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، ثُمَّ يَعُودُ إلى خَدِيجَةَ لِيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا. ... المزيد

 24-11-2023
 
 242
11-09-2023 352 مشاهدة
34ـ بدء الوحي

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مُشْرِقَةٌ مِنْ صُوَرِ حَيَاةِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ، فَمَا إِنْ حَدَّثَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ حَتَّى ... المزيد

 11-09-2023
 
 352
10-08-2023 250 مشاهدة
33ـ أيام حراء

مُنْذُ ضَمَّهَا البَيْتُ السَّعِيدُ قَامَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِوَاجِبِهَا كَامِلًا نَحْوَ زَوْجِهَا الحَبِيبِ، فَمَلَأَتْ أَيَّامَهُ سَعَادَةً وَهَنَاءً، تَتَحَسَّسُ مَرَاضِيَهُ فَتُسَارِعُ إِلَيْهَا، وَتَجْعَلُ نَفْسَهَا وَمَالَهَا ... المزيد

 10-08-2023
 
 250
09-03-2023 252 مشاهدة
32ـ حياة السيدة خديجة من الزواج إلى البعثة

السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا جُبِلَتْ عَلَى فِطْرَةٍ كَرِيمَةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ عَالِيَةٍ وَحَنَانٍ فَيَّاضٍ، مَا إِنْ تَزَوَّجَتْ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ... المزيد

 09-03-2023
 
 252

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413369633
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :