730ـ خطبة الجمعة: من عرف الحق هانت عليه التضحيات (1)

730ـ خطبة الجمعة: من عرف الحق هانت عليه التضحيات (1)

730ـ خطبة الجمعة: من عرف الحق هانت عليه التضحيات (1)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ عَرَفَ الحَقَّ هَانَتْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَاتُ، مَنْ عَرَفَ الحَقَّ جَعَلَ لِنَفْسِهِ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا مَوْقِفًا يُبَيِّضُ وَجْهَهُ عِنْدَمَا يَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى.

مَنْ عَرَفَ الحَقَّ يَكُونُ لَهُ مَوْقِفٌ يَتَعَالَىَ فِيهِ عَلَى مُتَعِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا، لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إلى مُتْعَةٍ أَبَدِيَّةٍ سَرْمَدِيَّةٍ في جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ؛ مَنْ عَرَفَ الحَقَّ قَدَّمَ مُرَادَ اللهِ تعالى عَلَى شَهَوَاتِهِ وَلَذَائِذِهِ.

هَذَا هُوَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا هُوَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُجَسِّدُ لَنَا هَذِهِ الحَقِيقَةَ ـ مَنْ عَرَفَ الحَقَّ هَانَتْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَاتُ ـ فَكَانَتْ حَيَاتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كُلُّهَا مَوَاقِفَ يُحْتَذَى بِهَا.

مِنْ هَذِهِ المَوَاقِفِ التي كَانَتْ كَالطَّوْدِ الأَشَمِّ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ لَا يَنْحَنِي، عِنْدَمَا جَاءَهُ قَوْمُهُ يُسَاوِمُونَهُ عَلَى دَعْوَتِهِ، بِأَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ يَوْمًا، وَيَعْبُدُونَ إِلَهَهُ يَوْمًا، وَقَدْ سَجَّلَ اللهُ تعالى هَذَا المَوْقِفَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾.

فَقَالَ لَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ تَعَالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.

وَعِنْدَمَا تَوَسَّلُوا إلى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُفَّ عَنْ دَعْوَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَلِمَتَهُ الشَّهِيرَةَ: يَا عَمُّ، وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ. / سيرة ابن هشام.

فَهَلْ للوَاحِدِ مِنَّا مَوْقِفٌ مِثْلُ هَذَا المَوْقِفِ يَلْقَى بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟

هَذَا هُوَ زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَهَذَا هُوَ زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، عِنْدَمَا أَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ وَأَرَادَتْ قَتْلَهُ، قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الآنَ عِنْدَنَا مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟

قَالَ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي.

قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا.

فَهَلْ لَنَا في حَيَاتِنَا مَوْقِفٌ كَهَذَا المَوْقِفِ نَلْقَى بِهِ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ؟

هَذِهِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي دِينَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَهَذِهِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا، قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

قَالُوا: خَيْرًا يَا أَمَّ فُلَانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللهِ كَمَا تُحِبِّينَ.

قَالَتْ: أَرَوْنِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ.

قَالَ: فَأُشِيرَ لَهَا إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ ـ تُرِيدُ صَغِيرَةً ـ.

فَهَلْ لِنِسَائِنَا مَوْقِفٌ كَهَذَا المَوْقِفِ يَلْقَيْنَ بِهِ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ؟

هَذِهِ مَيْسَرَةُ الأَنْدَنُوسِيَّةُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَهَذِهِ مَيْسَرَةُ الأَنْدَنُوسِيَّةُ عِنْدَمَا تَقَدَّمَتْ لِمُسَابَقَةِ حِفْظِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَتِ الجَائِزَةُ كَبِيرَةً للفَائِزَةِ، طُلِبَ مِنْهَا أَنْ تَرْفَعَ النِّقَابَ عَنْ وَجْهِهَا، فَأَبَتْ، وَقَالَتْ: عَفْوًا يَا أُسْتَاذُ، أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْتَحَ هَذَا ـ الحِجَابَ ـ.

فَقَالَ لَهَا: مِنْ فَضْلِكِ أَزِيحِي الحِجَابَ، هَذَا مِنْ شرُوطِ المُسَابَقَةِ.

قَالَتْ: هَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُدْخِلَ المَايك إلى هُنَا ـ تَعْنِي مِنْ دَاخِلِ الحِجَابِ ـ.

فَقَالَ لَهَا: لَا لَا نِظَامٌ، هَذَا نِظَامٌ.

ثُمَّ سَكَتَتْ لِلَحْظَةٍ، وَقَالَتْ: آسِفَةٌ يَا أُسْتَاذُ، أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ، أَنْسَحِبُ.

فَهَلْ لِبَنَاتِنَا مَوْقِفٌ كَهَذَا المَوْقِفِ يَلْقَيْنَ بِهِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَهُ مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ، فَهَلْ لَنَا مَوَاقِفُ في حَيَاتِنَا الدُّنْيَا تُبَيِّضُ وُجُوهَنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. انْظُرْ إلى مَوَاقِفِكَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَا هِيَ هَذِهِ المَوَاقِفُ؟

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الصَّالِحِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 29/ صفر /1442هـ، الموافق: 16/تشرين الأول / 2020م

 2020-10-16
 4036
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 26 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 26
12-04-2024 650 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 650
09-04-2024 557 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 557
04-04-2024 678 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 678
28-03-2024 568 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 568
21-03-2024 1000 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1000

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412756573
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :