57ـ ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾

57ـ ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾

57ـ ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّا نَسْتَفِيدُ مِنْ سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَنَّ الحَقَّ لَا يُعْرَفُ بِالكَثْرَةِ وَلَا بِالرِّجَالِ، وَلَكِنْ بِالأَدِلَّةِ وَالآثَارِ.

فَمِنَ المَصَائِبِ العِظَامِ، وَالطَّوَامِّ الجِسَامِ، انْقِلَابُ المَوَازِينِ، وَاخْتِلَالُ المَفاهِيمِ، وَقِلَّةُ الفِقْهِ في الدِّينِ، وَيَزْدَادُ الأَمْرُ سُوءًا إِذَا صَحِبَ ذَلِكَ غُرُورٌ وَاسْتِكْبَارٌ، وَتَعَالٍ وَاسْتِظْهَارٌ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ.

مِمَّا عَمَّتْ بِهِ البَلْوَى في هَذَا العَصْرِ، وَاشْتَدَّتْ بِهِ الكُرَبُ عَلَى أَهْلِ العِلْمِ، مَا غَلَبَ عَلَى الأَفْهَامِ، وَطُبِعَ في الأَذْهَانِ، وَشَابَ عَلَيْهِ الكُهُولُ، وَشَبَّ عَلَيْهِ الغِلْمَانُ، أَنَّ الحَقَّ يُعْرَفُ بِالكَثْرَةِ، أَو بِالرِّجَالِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. وَمِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾. وَمِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾.

﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا الأَمْرُ يُؤَكِّدُهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾.

فَالكَثْرَةُ لَا تَعْنِي الحَقَّ، فَالحَقُّ لَا يُعْرَفُ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ هُمْ يُعْرَفُونَ بِالحَقِّ، كَمَا أَنَّ الحَقَّ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ، بَلِ الرِّجَالُ يُعْرَفُونَ بِالحَقِّ، وَمَنْ تَتَبَّعَ القُرْآنَ العَظِيمَ يَجِدُ أَنَّ الكَثْرَةَ تُطْلَقُ عَلَى الهَلْكَى، قَالَ تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾. هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا يَتَخَلَّلُ بَعْضَ الأَفْئِدَةِ، وَتَنْغَمِسُ فِيهِ بَعْضُ النُّفُوسِ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ الذي لَا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُهُ غَالِبًا، فَمِثْلُ هَذَا وَإِنِ اعْتَقَدَ وَحْدَانِيَّةَ اللهِ تعالى، لَكِنَّهُ لَا يُخْلِصُ في عُبُودِيَّتِهِ، فَيَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ رَبِّهِ، وَيَعْمَلُ لِحَظِّ نفْسِهِ، أَو طَلَبِ دُنْيَاهُ، أَوِ ابْتِغَاءَ رِفْعَةٍ وَمَنْزِلَةٍ، أَو قَصْدَ جَاهٍ عِنْدَ الخَلْقِ، فَلِلَّهِ مِنْ عَمَلِهِ وَسَعيِهِ نَصِيبٌ، وَلِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ نَصِيبٌ، وَللشَّيْطَانِ نَصِيبٌ، وَللخَلْقِ نَصِيبٌ، وَاللهُ تعالى أَغْنَى الأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ.

روى ابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟».

قَالَ: قُلْنَا: بَلَى.

فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ في سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، دَرْسٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُلْتَزِمٍ، وَدَرْسٌ لِكُلِّ دَاعِيَةٍ إلى اللهِ تعالى، أَنَّ الكَثْرَةَ لَا تَعْنِي الحَقَّ، وَالقِلَّةَ لَا تَعْنِي الخطَأَ، بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ تَمَامًا.

وَتُعَلِّمُهُ أَنَّ الحَقَّ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ، بَلِ الرِّجَالُ يُعْرَفُونَ بِالحَقِّ، فَالحَقُّ يُؤْخَذُ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَكَذَلِكَ تُعَلِّمُنَا هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ أَنَّ الصِّرَاعَ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ قَائِمٌ عَلَى مُسْتَوَى الجَمَاعَاتِ وَالدُّوَلِ، وَالشُّعُوبِ وَالأَفْرَادِ، وَمُدَافَعَةُ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ في أَرْضِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾.

هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُعَلِّمُنَا أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الأَرْضِ عُصَاةٌ وَمُنْحَرِفُونَ، وَالقَلِيلُ هُمُ المُؤْمِنُونَ الشَّاكِرُونَ، الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ، وَصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» رواه الإمام مسلم عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَكُنْ يَا عَبْدَ اللهِ مِنَ القَلِيلِ النَّاجِينَ، وَلَا تَكُنْ مِنَ الكَثْرَةِ الهَالِكِينَ.

اللَّهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ وَحَبِّبْنَا فِيهِ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلًا وَأَلْهِمْنَا اجْتِنَابَهُ وَكَرِّهْنَا فِيهِ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 21/ شعبان /1442هـ، الموافق: 5/ نيسان / 2021م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 330 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 330
31-07-2023 361 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 361
08-05-2023 588 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 588
19-04-2023 454 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 454
14-04-2023 333 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 333
11-04-2023 406 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 406

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412825093
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :