33ـ كلمة شهر ذي القعدة1430هـ: لا تجعل قلبك أسيراً بعد أن كان ملكاً

33ـ كلمة شهر ذي القعدة1430هـ: لا تجعل قلبك أسيراً بعد أن كان ملكاً

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إنَّ النَّظر يولِّد المحبّة، فتبدأ علاقة يتعلَّق بها القلب بالمنظور إليه، ثمَّ تقوى فتصير صبابة ينصبُّ إليه القلب بكلِّيَّته، ثمّ تقوى فتصير غراماً يلزم القلب كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه، ثمَّ تقوى فيصير عشقاً وهو الحبُّ المفرط، ثمَّ يقوى فيصير شغفاً، وهو الحبُّ الذي قد وصل إلى شغاف القلب وداخله، ثمَّ يقوى فيصير تتيُّماً وهو التَّعبُّد، فيصير القلب عبداً لمن لا يصلح أن يكون هو عبداً له، وهذا كلُّه جناية النَّظر، فحينئذ يصير القلب أسيراً بعد أن كان ملكاً، ومسجوناً بعد أن كان مطلقاً، فيتظلَّم من الطّرف ويشكوه، والطَّرف يقول: أنا رائدك ورسولك وأنت بعثتني، فيبتلى بطمس البصيرة فلا يرى به الحقَّ حقّاً، ولا الباطل باطلاً، وهذا أمر يحسُّه الإنسان من نفسه، فإنَّ القلب كالمرآة، والهوى كالصَّدأ فيها، فإذا خلصت المرآة من الصَّدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي، وإذا صدئت لم تنطبع فيها صور المعلومات. اهـ.

فإطلاق النظر نحو ما حرَّم الله تعالى النظر إليه من المحارم وغيرها منهيٌّ عنه شرعاً، وذلك لضرره البليغ على القلب الذي هو سلطان الجوارح كلِّها، وإذا تضرَّر القلب بالنظر إلى ما حرَّم الله تعالى فسد، وإذا فسد فسدت الجوارح كلُّها، يقول صلى الله عليه وسلم: (أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) رواه البخاري ومسلم.

ولهذا أمر الله عز وجل المؤمنين والمؤمنات بغضِّ البصر، وزاد أمراً للمؤمنات عدم إبداء الزينة، فقال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}.

وقد روى أبو داود والترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ مَيْمُونَةُ، فَأَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (احْتَجِبَا مِنْهُ) فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَعْمَى لا يُبْصِرُنَا وَلا يَعْرِفُنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ).

إن إطلاق البصر أضراره كثيرة:

أولاً: هو بريد الزنا، كما جاء في الحديث الشريف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ) رواه البخاري ومسلم.

ثانياً: يجعل في القلب لوعةً وهِياجاً فيجرُّ إلى الحرام والعياذ بالله تعالى.

ثالثاً: يفسد القلب والخُلُق.

رابعاً: فيه قلة حياء من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) رواه الترمذي. ومن حفظ الرأس غض البصر عمَّا حرَّم الله تعالى.

خامساً: سبب من أسباب شيوع الفاحشة في المجتمعات، وهذا سبب من أسباب دمار المجتمعات، روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا...) رواه ابن ماجه وغيره. وفي رواية للبيهقي: (ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله عليهم الموت).

وغضُّ البصر عما حرَّم الله تعالى فوائده كثيرة:

أولاً: تتذوَّق حلاوة الإيمان ولذَّته، والتي هي أطيب وأحلى مما تركته لله تعالى، فمن ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه. روى الطبراني والحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَنْ تَرَكَهَا مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ).

ثانياً: ينوِّر القلب، وإذا تنوَّر القلب تنوَّر الفكر والعقل، وإذا تنوَّر القلب والفكر استقام العبد على شريعة الله عز وجل.

ثالثاً: من غضَّ بصره كان من أهل الحياء، والحياء لا يأتي إلا بخير.

رابعاً: فيه راحة للنفس والبدن.

خامساً: غضُّ البصر يجعل المجتمع آمناً متحابَّاً، لا تنتشر فيه الفواحش.

سادساً: يُرضي الرحمن ويُغيظ الشيطان.

ورحم الله القائل:

وكنتَ متى أرسلتَ طرفك رائداً *** لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كُلُّه أنت قادر *** عليه، ولا عن بعضه أنت صابر

وأخيراً أقول لنفسي ولك:

لا تجعل قلبك أسيراً بعد أن كان ملكاً، ويرحم الله القائل:

رُبَّ مستورٍ سَبَتْهُ صَبْوَةٌ *** فَتَعَرَّى سِتْرُهُ فانْتَهَكا

صاحبُ الشَّهوةِ عَبْدٌ فإذا *** غَلَبَ الشَّهوةَ صارَ المَلِكا

اللهم وفِّقنا لغضِّ البصر وحفظ الفرج واللِّسان. آمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **

 

 2009-10-19
 8596
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

13-03-2024 134 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 134
09-02-2024 443 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 443
13-01-2024 279 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 279
14-12-2023 386 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 386
16-11-2023 500 مشاهدة
207ـ لا تزال الأمة تبتلى

مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد

 16-11-2023
 
 500
16-09-2023 526 مشاهدة
205ـ كيف لا نحب الحبيب صلى الله عليه وسلم!

مَا أَجْمَلَ شَهْرَ الرَّبِيعِ الذي وُلِدَ فِيهِ الحَبِيبُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟! حَيْثُ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُذَكِّرُنَا بِفَصْلِ الرَّبِيعِ الذي فِيهِ تَتَفَتَّحُ الأَزْهَارُ، وَتُغَرِّدُ ... المزيد

 16-09-2023
 
 526

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411958762
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :