41ـ كلمة شهر رجب1431هـ: الحكمة من وجود الفقر في الإنسان

41ـ كلمة شهر رجب1431هـ: الحكمة من وجود الفقر في الإنسان

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول سيدي ابن عطاء الله السكندري: (فاعلم أن سلامة القلوب من التدبير في شأن الرزق، مِنَّةٌ عظمى لا يسلم منها إلا المؤمنون الذين صدقوا الله في حسن الثقة، فاطمأنت قلوبهم إليه وتحققوا بالتوكل عليه، حتى قال بعض المشايخ: أحكموا لي أمر الرزق ـ أي سلموا أمر الرزق إلى الله، وأريحوا أنفسكم من عناء التفكير في تحصيله يأتيكم كاملاً غير منقوص ـ ولا عليكم من سائر المقامات) اهـ.

لقد شاء الله تعالى أن يجعل الآدمي محتاجاً إلى الطعام والشراب من أجل سلامة بنيته، ولو شاء الله تبارك وتعالى لجعل الإنسان كالملائكة الكرام لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناسلون. قال تبارك وتعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ}. فربنا جلَّت قدرته يُطعِم خلقه جميعاً دفعة واحدة، فالكلُّ أكل من رزقه وخيراته، والكلُّ بحاجة إليه، وهو تبارك وتعالى غني عن خلقه، وصدق الله القائل: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد * اللهُ الصَّمَد}. الصمد هو المقصود، وهو الذي يُطعِم ولا يُطعَم.

والله تبارك وتعالى جعل العبد فقيراً إليه لحكمة بالغة، فقال تبارك وتعالى مخاطباً الناس جميعاً فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد}. ولو ترك الله تعالى العبد من غير فقر وحاجة إليه تعالى لادَّعى الألولهية والربوبية، وظنَّ نفسه أنه المقصود من قبل الغير، أو ادُّعِيَت فيه الألوهية والربوبية وقيل عنه إله من دون الله تعالى ـ والعياذ بالله تعالى ـ.

فمن رحمة الله عز وجل في الإنسان أن جعله فقيراً إليه في إيجاده وفي إمداده وفي كل نَفَسٍ من أنفاسه حتى لا تتحرك نفسه الأمَّارة بالسوء بالادعاء أنها غنيَّة عن مولاها، وليعرِّفه أنه بحاجة إلى الله تعالى، فيكون فقره وحاجته سبباً من أسباب التي توصل العبد إلى الله تعالى، ولذلك قالوا: من عرف نفسه عرف ربه.

من عرف نفسه مخلوقاً عرف الله خالقاً، ومن عرف نفسه فقيراً عرف الله غنياً، ومن عرف نفسه عاجزاً عرف الله قادراً، ومن عرف نفسه ذليلاً عرف الله عزيزاً إلى آخر الصفات.

الحكمة من وجود الفقر في الإنسان:

فمن حكمة الله تعالى أن يجعل الإنسان فقيراً، حتى لا يطغى ويتكبر ويتعالى ويدعي لنفسه ما ليس فيه، هذا أولاً.

ثانياً: حتى يحب العبد ربه تبارك وتعالى، وإذا أحب العبد ربه أطاعه وأقبل عليه ممتثلاً أمره ومجتنباً نهيه، وهذا هو الخير في حق العبد.

وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أحبوا الله لما يغذوكم به من نِعَمه) رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

فالله تعالى أفقرَ العبدَ إليه، فشعر العبد بالحاجة والفقر إلى الله تعالى، وإذا قضى الله تعالى حاجة العبد فأغناه ورفع عنه الفاقة والفقر والحاجة انجذب القلب إليه، لأن القلوب مجبولة على حبِّ من يحسن إليها.

لذلك ما أفقر الله تعالى العبد إلا ليتوجَّه العبد إليه، وإذا توجَّه إليه أعطاه وحباه ومنحه، وإذا أسبغ عليه نعمه أحبَّه، وإذا أحبَّه أعطاه، وإذا أعطاه أسعده، فلله الحمد والنعمة والفضل على نعمة الفقر إليه، لأنه كلما تجدَّدت النعم تجدَّدَ الحبُّ للمُنعم.

ثالثاً: حتى يشكر العبد ربه كلما أسبغ عليه نعمه، قال تعالى: {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور}. ومَنْ شَكَرَ الله تعالى على نعمه عَقَلها، فبالشكر يعقِل العبدُ النعمةَ الموجودةَ ويستجلبُ النعمةَ المفقودة، كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}.

رابعاً: حتى يناجي ربه، لأن العبد كلما شعر بفقره وحاجته توجَّه إلى مولاه بالمناجاة والسؤال، ولولا الحاجة والفقر لاستغنى العبد، واستغناء العبد عن مولاه يعني هلاكه، وصدق الله تعالى القائل: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}.

يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: (أراد الله تعالى أن يفتح للعباد باب المناجاة، فكلما احتاجوا إلى الأقوات والنعم توجَّهوا إليه برفع الهمم، فَشُرِّفوا بمناجاته، ومُنِحُوا من هباته، ولو لم تسقهم الفاقة إلى المناجاة لم يَفقهها عقول العموم من العباد، ولولا الحاجة لم يَستَفْتِح بابها إلا عقولُ أهل الوداد، فصار ورود الفاقة سبباً للمناجاة، والمناجاة شرف عظيم، ومنصب من الكرامة جسيم) اهـ.

فالحمد لله على نعمة الفاقة والفقر إليه، فهو تبارك وتعالى غنيٌّ عن العالمين، وجميع العوالم مفتقرة إليه، وما أفقرنا إليه إلا ليرحمنا، فنعوذ بالله من الاعتماد على النعمة دون المنعم، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا لأحد من خلقك طرفة عين ولا أقلَّ من ذلك، فإنك إن وكلتنا إلى أنفسنا فإنك تباعدنا من الخير وتقرِّبنا من الشر، ونحن لا نثق إلا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا تبرَّأنا إليك من حولنا وقوتنا إلى حولك وقوتك، فدبِّر لنا فإنا لا نحسن التدبير. آمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، سبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

**      **      **

 

 2010-06-12
 9665
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

09-04-2024 83 مشاهدة
212ـ كيف تستقبل العيد أنت؟

هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد

 09-04-2024
 
 83
13-03-2024 251 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 251
09-02-2024 501 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 501
13-01-2024 298 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 298
14-12-2023 436 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 436
16-11-2023 539 مشاهدة
207ـ لا تزال الأمة تبتلى

مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد

 16-11-2023
 
 539

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412860085
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :