طباعة |
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ جَاءَ في سُورَةِ الإِسْرَاءِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالـشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولَاً﴾. كَثِيرَاً مَا يَدْعُو الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ مُسْتَعْجِلَاً وَمُتَسَرِّعَاً في مَوْضِعٍ الأَلْيَقُ وَالأَكْرَمُ بِهِ أَنْ يَدْعُوَ بِالخَيْرِ، وَمَا أُعْطِيَ الإِنْسَانُ عَطَاءً خَيْرَاً وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ.
مَا أَجْمَلَ العَبْدَ أَن يُصَبِّرَ نَفْسَهُ، وَيُقَيِّدَهَا بِقُيُودِ الشَّرِيعَةِ، وَيُعَوِّدَ لِسَانَهُ في سَاعَاتِ الغَضَبِ أَنْ يَدْعُوَ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ.
روى الإمام مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ المَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ».
وروى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ (جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ جُهَيْنَةَ) وَهُوَ يَطْلُبُ المَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ، وَكَانَ النَّاضِحُ (البَعِيرُ الذي يُسْتَقَى عَلَيْهِ) يَعْتَقِبُهُ مِنَّا الْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ، فَدَارَتْ عُقْبَةُ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ (العُقْبَةُ رُكُوبُ هَذَا نَوْبَةً وَهَذَا نَوْبَةً، هِيَ رُكُوبُ مِقْدَارِ فَرْسَخَيْنِ) عَلَى نَاضِحٍ لَهُ، فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ (أَيْ: تَلَكَّأَ وَتَوَقَّفَ) فَقَالَ لَهُ: شَأْ (كَلِمَةُ زَجْرٍ للبَعِيرِ) لَعَنَكَ اللهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟».
قَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «انْزِلْ عَنْهُ، فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ».
وروى الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ».
كَمْ هُوَ الفَارِقُ كَبِيرٌ بَيْنَ مَنْ يَدْعُو اللَه لِوَلَدِهِ، وَبَيْنَ مَنْ يَدْعُو عَلَيْهِ؟
وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ اللهَ تعالى لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءَ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَخَاصَّةً في حَالَةِ الضَّجَرِ وَالغَضَبِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الـشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
وَبِالمُقَابِلِ: عَلَى الأَبَوَيْنِ أَنْ يَعْلَمَا بِأَنَّ اللهَ تعالى قَدْ يَسْتَجِيبُ لِدُعَائِهِمَا عَلَى الوَلَدِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ، فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي.
ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ المُومِسَاتِ.
وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجَاً، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى.
فَأَتَتْ رَاعِيَاً، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامَاً فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ.
فَأَتَوْهُ، وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الغُلَامَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي. قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ».
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَنَنْصَحُ الأُمَّ وَكَذَلِكَ الأَبَ، أَنْ لَا يَدْعُوَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الوَلَدِ، خَشْيَةَ أَنْ يُسْتَجَابَ لِدُعَائِهِمَا.
وَالمُوَفَّقُ مَنْ صَبَرَ، وَدَعَا اللهَ تعالى لِذُرِّيَّتِهِ وَللنَّاسِ جَمِيعَاً. هذا، والله تعالى أعلم.
جميع الحقوق محفوظة © 2024 https://www.naasan.net/print.ph/ |