السؤال :
يُرْجَى شَرْحُ الحَدِيثِ الذي رواه الإمام البخاري عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 10157
 2020-02-06

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أولاً: هَذَا الحَدِيثُ صَحِيحٌ أَوْرَدَهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ، حَيْثُ جَاءَ قَوْمٌ إلى سَيِّدِنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَشْكُونَ إِلَيْهِ ظُلْمَ الحَجَّاجِ وَتَعَدِّيَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ «فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ».

وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا المَعْنَى مَا رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ لِامْرَأَتِهِ: الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ أَمْسِ؟

فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي.

فَقَالَ: لَكِنِّي أَدْرِي، أَمْسِ خَيْرٌ مِنَ الْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ خَيْرٌ مِنْ غَدٍ، وَكَذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.

ثانياً: هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُوجَدُ في بَعْضِ الأَزْمِنَةِ خَيْرٌ أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِهَا، فَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَجْعَلُ مُتَنَفَّسَاً لِعِبَادِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ زَمَنَ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ بَعْدَ زَمَنِ الحَجَّاجِ بِيَسِيرٍ.

ثالثاً: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، وُجُوبُ التَّحَلِّي بِالأَخْلَاقِ زَمَنَ الفِتَنِ؛ مِنْ هَذِهِ الأَخْلَاقِ:

1ـ خُلُقُ التَّأَنِّي وَالرِّفْقِ وَالحِلْمِ وَعَدَمِ العَجَلَةِ أَيَّامَ الفِتَنِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. وَالنَّاسُ في أَيَّامِ الفِتَنِ يَحْتَاجُونَ إلى الرِّفْقِ.

2ـ خُلُقُ الصَّبْرِ أَيَّامَ الفِتَنِ وَالابْتِلَاءَاتِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ صَبْرٌ فِيهِنَّ كَقَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ» رواه الحاكم عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَالنَّاسُ في أَيَّامِ الفِتَنِ يَحْتَاجُونَ إلى الصَّبْرِ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

فَــاصْبِرْ فَإِنَّكَ في النَّوَازِلِ رَائِدٌ   ***   وَالدَّرْبُ نَعْلَمُ شَائِكٌ وَطَوِيلُ

فَالصَّبْرُ رَوْضَاتٌ لِأَبْنَاءِ الهُدَى   ***   وَلِجَنَّةِ الرَّحْمَنِ تِـلْـــكَ سَـبِـيلُ

3ـ خُلُقُ العَدْلِ وَالإِنْصَافِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾. وَالنَّاسُ في أَيَّامِ الفِتَنِ يَحْتَاجُونَ إلى العَدْلِ وَالإِنْصَافِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَالحَدِيثُ الشَّرِيفُ بَيَّنَ لَنَا وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَيْنَا أَيَّامَ الفِتَنِ، وَوُجُوبَ الرِّفْقِ وَالعَدْلِ، فَالدُّنْيَا سَتَرْجِعُ إلى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».

فَمَا مِن يَوْمٍ إِلَّا وَالذي يَلِيهِ شَرٌّ مِنْهُ، وَهَذَا بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا مَا رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ».

فَخَيْرُ الأَيَّامِ هِيَ الأَيَّامُ التي كَانَ فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ بَدَأَ العَدُّ التَّنَازُلِيُّ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ زَمَنَ الصَّحَابَةِ خَيْرٌ مِنْ زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَزَمَنَ التَّابِعِينَ خَيْرٌ مِنْ زَمَنِ تَابِعِي التَّابِعِينَ، وَهَكَذَا إلى قِيَامِ السَّاعَةِ. هذا، والله تعالى أعلم.