السؤال :
هَلْ صَحِيحٌ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَلِّمَ الإِنْسَانُ الإِنْسَانَ المَجْذُومَ عَنْ بُعْدٍ؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 10245
 2020-03-26

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

جَاءَ في كَنْزِ العُمَّالِ: كَلِّمِ المَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ أَو رُمْحَيْنِ. ابن السني وأبو نعيم في الطب عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.

إِنَّ دِينَنَا الحَنِيفَ رَبطَ الأَسْبَابَ بِمُسَبِّبَاتِهَا، وَنَاطَ النَّتَائِجَ بِمُقَدِّمَاتِهَا وَلَيْسَ في الوُجُودِ أَعَزُّ مِنَ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ الأَعْرَابِيِّ الذي جَاءَهُ لِيَعْلَمَ مَا يَسْأَلُ اللهَ عَنْهُ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ: «سَلِ اللهَ العَافِيَةَ» رواه الترمذي عَنْ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَوْلَهُ في حَدِيثٍ آخَرَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ» رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

فَعَلَى المُفْتَقِرِ إلى الصِّحَّةِ أَنْ يَسْعَى وَرَاءَهَا بِكُلِّ مَا أُوتِيهُ مِنْ قُوَّةٍ وَعِلْمٍ، وَعَلَى المُتَمَتِّعِ بِهَا أَنْ يَحْتَفِظَ بِهَا كُلَّ الاحْتِفَاظِ، وَأَنْ يُبَاعِدَ بِنَفْسِهِ عَنِ الأَمْرَاضِ المُعْدِيَةِ عَمَلًا بِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾. وَشَرُّ المُهْلِكَاتِ أَمْرَاضٌ تَتَفَشَّى وَحُمَّيَاتٌ تَنْتَشِرُ وَتَفْتِكُ بِالنُّفُوسِ فَتْكًا ذَرِيعًا بِإِهْمَالِنَا تَعَالِيمَ الدِّينِ الصَّحِيحَةَ، وَإِرْشَادَاتِهِ النَّافِعَةِ في كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَافَةِ وَالاحْتِيَاطَاتِ الصِّحِّيَةِ وَهَا هِيَ كُتُبُ الدِّينِ مُفْعَمَةٌ بِمَا لَو أَخَذْنَا بِبَعْضِهَا لَكَانَتْ حَالَتُنَا الصِّحِّيَّةُ اليَوْمَ غَيْرَ مَا تَرَى.

روى الإمام مسلم مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ».

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا وَإِرْشَادًا: «وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَلِّمِ المَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ أَو رُمْحَيْنِ».

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الطَّاعُونِ: «إِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا» رواه الإمام أحمد.

وَقَدْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ثَانِي الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَمَا خَرَجَ إلى الشَّامِ وَكَانَ مَعَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ حَتَّى إِذَا مَا قَرُبَ مِنْهَا أَخْبَرَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ، فَنَادَى عُمَرُ في النَّاسِ إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟

فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟

قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ـ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ ـ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ».

قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ

وَمِثْلُ هَذَا قَالَ العُلَمَاءُ في المَجْذُومِينَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ العَاهَاتِ المُعْدِيَةِ.

إِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنَ المَسَاجِدِ وَيُتَّخَذُ لَهُمْ مَكَانٌ مُنْفَرِدٌ عَنِ الأَصِحَّاءِ الذينَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْ مُلَاقَاتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ لِئَلَّا يُلْقُوا بِأَنْفُسِهِمْ إلى التَّهْلُكَةِ التي نَهَى اللهُ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ يَثْبُتُ الخِيَارُ للزَّوْجَيْنِ في فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ بِأَحَدِهِمَا جُذَامٌ.

وَمَا أَكْثَرَ مَا جَاءَ في كُتُبِ السُّنَّةِ مِنَ الحَثِّ عَلَى النَّظَافَةِ التي هِيَ مِنَ الإِيمَانِ.

وَمِنْ أَهَمِّ أَنْوَاعِهَا نَظَافَةُ المَسَاكِنِ وَالدُّورِ وَأَمَاكِنِ العِبَادَةِ وَالمُجْتَمَعَاتِ، وَكَذَلِكَ نَظَافَةُ المَلَابِسِ وَالأَجْسَادِ وَتَمْشِيطُ الشَّعْرِ وَتَسْرِيحُ اللِّحْيَةِ وَقَتْلُ الحَشَرَاتِ وَالهَوَامِّ كَالقَمْلِ وَالبَرَاغِيثِ وَالبَقِّ وَالذُّبَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ أَخِيرًا أَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ العَوَامِلِ عَلَى انْتِشَارِ الأَمْرَاضِ وَتَفَشِّي الحُمَّيَاتِ تَفَشِّيًا مُرِيعًا في طُولِ البِلَادِ وَعَرْضِهَا.

وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا لَا يُخَالِفُ مَا جَاءَ في الحَدِيثِ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَهَذَا ذُكِرَ للرَّدِّ عَلَى الجَاهِلِيَّةِ الذينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الأَسْبَابَ تُؤَثِّرُ بِطَبِيعَتِهَا في المُسَبِّبَاتِ وَأَنَّ اللهَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَلَّا عَدْوَى مُؤَثِّرَةً بِطَبِيعَتِهَا.

وَإِنَّمَا قَدْ يَجْعَلُ اللهُ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مُخَالَطَةَ صَحِيحِ الجِسْمِ لِمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُعْدٍ سَبَبًا لِإِصَابَتِهِ بِهَذَا المَرَضِ، وَلِهَذَا كَانَ الأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الأَصِحَّاءِ عَنْ أَصْحَابِ الأَمْرَاضِ الوَبَائِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ للمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ ذَوِي العَاهَةِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا الحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا قَدَّمْنَا.

فَالحَدِيثُ كَانَ للرَّدِّ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ مِنْ أَنَّ التَّأْثِيرَ للطَّبِيعَةِ.

فَوَاجِبُ المُسْلِمِينَ أَنْ يَبْذُلُوا جُهْدَهُمْ وَيَشُدُّوا عَزِيمَتَهُمْ، وَيَتَعاوَنُوا جَمِيعًا عَلَى مُحَارَبَةِ هَذِهِ الأَمْرَاضِ المُهْلِكَةِ بِكُلِّ الوَسَائِلِ التي يُرْشِدُهُمْ إِلَيْهَا المَوْثُوقُ بِهِمْ.

فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا وَلِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً وَاللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى كَفِيلٌ أَنْ يُعِينَهُمْ وَيُصْلِحَ أَحْوَالَنَا وَأَحْوَالَهُمْ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَالحَدِيثُ الذي سَأَلْتُمْ عَنْهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَنَا بِأَنَّ الأَخْذَ بِالأَسْبَابِ وَاجِبٌ عَلَيْنَا، وَبَعْدَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ يَكُونُ التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تعالى، لِأَنَّ الفَاعِلَ الحَقِيقِيَّ هُوَ اللهُ تعالى، وَلَيْسَتِ الأَسْبَابُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى، فَنَأْخُذُ بِالأَسْبَابِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَبَعْدَ ذَلِكَ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ تعالى الفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ. هذا، والله تعالى أعلم.