السؤال :
لَقَدْ أَكْرمَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، وَلَكِنَّ المُشْكِلَةَ أَنَّ وَالِدِي لَا يُصَلِّي إِلَّا مَعِيَ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ أَتْرُكَ صَلَاةَ الجَمَاعَةِ مِنْ أَجْلِ وَالِدِي حَتَّى يُحَافِظَ عَلَى صَلَاتِهِ وَلَا يَتْرُكَهَا؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 11782
 2022-02-11

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَالأَصْلُ في هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَنْ يُحَرِّضُ الوَالِدُ وَلَدَهُ عَلَى صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وَعَدَّ مِنْهُمْ: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

فَالأَبُ هُوَ القُدْوَةُ، وَالوَلَدُ هُوَ التَّابِعُ، وَلَكِنْ لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا اللهُ تعالى، وَمِنْ خِلَالِ هَذَا نَعْلَمُ أَنَّ الوَلَدَ يَسْتَطِيعُ الاسْتِقَامَةَ عَلَى شَرْعِ اللهِ تعالى، وَلَو كَانَ وَالِدُهُ مُقَصِّرًا. هَذَا أَوَّلًا.

ثانيًا: صَلَاةُ الجَمَاعَةِ في المَسْجِدِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الرِّجَالِ القَادِرِينَ عَلَى شُهُودِهَا، وَهِيَ مِنْ سُنَنِ الهُدَى، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مَنْ سُنَنَ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ.

وَفِي رِوَايَةٍ للإِمَامِ مُسْلِمٍ قَالَ عَبْدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ، أَوْ مَرِيضٌ، إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلَاةِ.

وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّ مِنْ سُنَنَ الْهُدَى الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ.

فَكَانَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مَنْ عُرِفَ بِالنِّفَاقِ، وَخَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ العِشَاءِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ».

ثالثًا: روى أبو داود عَنْ عَمْرٍو وَسَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا ـ قَالَ مَرَّةً: ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ ـ فَأَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً الصَّلَاةَ ـ وَقَالَ مَرَّةً: الْعِشَاءَ ـ فَصَلَّى مُعَاذٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَصَلَّى، فَقِيلَ: نَافَقْتَ يَا فُلَانُ، فَقَالَ: مَا نَافَقْتُ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ وَنَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَإِنَّهُ جَاءَ يَؤُمُّنَا فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأْ بِكَذَا، اقْرَأْ بِكَذَا ـ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى».

رابعًا: يَجِبُ تَذْكِيرُ تَارِكِ الصَّلَاةِ بِالصَّلَاةِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَرْكِهَا، فَهِيَ عَمُودُ الدِّينِ، وَالمُتَهَاوِنُ بِهَا مُتَوَعَّدٌ بِالعِقَابِ الشَّدِيدِ، قَالَ تعالى: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ: «لَا تُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئًا، وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ، وَلَا تَتْرُكْ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا، فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَلَا تَشْرَبِ الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ».

وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ تعالى الفَلَاحُ لِأَهْلِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَبَارَكَ اللهُ تعالى فِيكَ، وَجَعَلَكَ سَبَبًا للهِدَايَةِ وَالصَّلَاحِ وَالإِصْلَاحِ، وَوَفَّقَكَ اللهُ تعالى لِمَزِيدِ مَرْضَاتِهِ، وَمَزِيدِ البِرِّ بِوَالِدَيْكَ، وَأَنْصَحُكَ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ الجَمَاعَةِ في المَسْجِدِ، مَعَ تَرْغِيبِ وَالِدِكَ بِذَلِكَ، وَأَعْلِمْهُ أَنَّ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ إلى المَسْجِدِ حَسَنَةً، وَمَحْوَ سَيِّئَةٍ، وَيُرْفَعُ بِهَا دَرَجَةً، وَاصْطَبِرْ عَلَيْهِ.

فَإِنْ أَبَى فَصَلِّ صَلَاتَكَ في المَسْجِدِ، ثُمَّ ارْجِعْ إلى بَيْتِكَ لِتُصَلِّيَ بِهِ إِمَامًا، فَتَكُونَ لَكَ نَافِلَةً، وَيُصَلِّي وَالِدُكَ جَمَاعَةً.

بَارَكَ اللهُ تعالى فِيكَ وَفي أُصُولِكَ وَفُرُوعِكَ وَزَوْجِكَ. هذا، والله تعالى أعلم.