طباعة |
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد روى الإمام أحمد والترمذي عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ».
فَمِن كَرَمِ اللهِ تعالى وفَضْلِهِ على خَلْقِهِ، أَنَّهُ يَقبَلُ تَوبَةَ العَبدِ المُذنِبِ المُكَلَّفِ مَا لَم تَصِلْ رُوحُهُ إلى حُلقُومِهِ، أي: مَا لَم يُغَرغِرْ، وهذا مَأخُوذٌ من قَولِهِ تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾. وقد فَسَّرَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما حُضُورَهُ بِمُعَايَنَتِهِ مَلَكَ المَوتِ؛ وقَالَ غَيرُهُ: المُرَادُ تَيَقُّنُ المَوتِ، لا خُصُوصُ رُؤيَةِ مَلَكِهِ.
وبناء على ذلك:
فالمَقصُودُ من الحَدِيثِ الشَّرِيفِ ـ والله تعالى أعلم ـ بأنَّ تَوبَةَ اليَائِسِ من الحَيَاةِ الذي وَقَعَت رُوحُهُ في حُلقُومِهِ غَيرُ مَقبُولَةٍ عِندَ جُمهُورِ الفُقَهَاءِ، لأنَّ هذا العَبدَ كَانَ يَرتَكِبُ السَّيِّئَاتِ، ويُؤَخِّرُ التَّوبَةَ إلى أن وَقَعَت رُوحُهُ في الغَرغَرَةِ.
ويُستَفَادُ من الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: أنَّهُ يُشتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّوبَةِ صُدُورُهَا قَبلَ وُصُولِ الرُّوحِ إلى الحُلقُومِ، وأن يُغَرغَرَ بِهَا.
والسِّرُّ في عَدَمِ قَبُولِ تَوبَةِ هذا العَبدِ، أنَّ التَّوبَةَ من شُرُوطِهَا عَزْمُ التَّائِبِ على أن لا يَعُودَ إلى الذَّنبِ، وذلكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَمَكُّنِ التَّائِبِ من الذَّنبِ، وبَقَاءِ الاختِيَارِ لَهُ.
وقَالَ ابنُ عَلَّانَ: والحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى فُرِضَ الوُصُولُ لِحَالَةٍ لا تُمكِنُ الحَيَاةُ بَعدَهَا عَادَةً لا تَصِحُّ مِنهُ حِينَئِذٍ تَوبَةٌ ولا غَيرُهَا، وهذا مُرَادُ الحَدِيثِ بِقَولِهِ: «يُغَرْغِرْ» ومَتَى لَم يَصِلْ لذلكَ صَحَّتْ مِنهُ التَّوبَةُ وغَيرُهَا.
اللَّهُمَّ ارزُقنَا تَوبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.
جميع الحقوق محفوظة © 2024 https://www.naasan.net/print.ph/ |