السؤال :
امرأة قتلت نفساً بغير حق، هل تجب عليها الكفارة والدية؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 9433
 2019-01-29

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أولاً: قَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ عَمْدَاً وَعُدْوَانَاً وَظُلْمَاً يُعَدُّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّدَاً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدَاً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابَاً عَظِيمَاً﴾.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ.

ثانياً: بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ أَمَامَ جَمِيعِ العُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَلَا يُغْلَقُ هَذَا البَابُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَو حَتَّى تَقَعَ رُوحُ العَبْدِ في الغَرْغَرَةِ.

قَالَ تعالى في حَقِّ التَّائِبِينَ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامَاً * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانَاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحَاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورَاً رَحِيمَاً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابَاً﴾.

وروى الشيخان ـ واللفظ لمسلم ـ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسَاً يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ.

فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ المَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبَاً مُقْبِلَاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرَاً قَطُّ.

فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ».

قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا، أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ المَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ (أَيْ: نَهَضَ وَتَقَدَّمَ لِيَقْرُبَ بِذَلِكَ إِلى الأَرْضِ الصَّالِحَةِ).

ثالثاً: عُقُوبَةُ قَتْلِ العَمْدِ القِصَاصُ إِذَا لَمْ يَعْفُ أَوْلِيَاءُ المَقْتُولِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومَاً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُـسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورَاً﴾.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

رابعاً: أَجْمَعَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ، إِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ القَاتِلِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَالٍ مُقَابِلَ العَفْوِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خامساً: أَمَّا الكَفَّارَةُ في قَتْلِ العَمْدِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في وُجُوبِهَا عَلَى القَاتِلِ إِذَا عَفَا أَوْلِيَاءُ المَقْتُولِ.

فَعِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ وَالمَشْهُورِ عِنْدَ الحَنَابِلَةِ لَا تَجِبُ الكَفَّارَةُ، وَهِيَ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، أَو صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.

وَخَالَفَ في ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَفي رِوَايَةٍ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الكَفَّارَةِ عَلَى قَاتِلِ العَمْدِ إِذَا عَفَا أَوْلِيَاءُ المَقْتُولِ، وَكَفَّارَتُهُ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، أَو صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.

سادساً: أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِدِيَةِ القَتْلِ العَمْدِ، فَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهَاءُ أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً أَصْلِيَّةً للقَتْلِ العَمْدِ، لِأَنَّ القَتْلَ العَمْدَ مُوجِبٌ للقِصَاصِ، بَلْ تَجِبُ بِالصُّلْحِ.

وَالدِّيَةُ في القَتْلِ العَمْدِ تَجِبُ عَلَى القَاتِلِ في مَالِهِ، لِأَنَّهَا مُوجِبُ فِعْلٍ قَصَدَهُ، وَلَا تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَتَجِبُ حَالَّةً لَا مُؤَجَّلَةً، وَقَاتِلُ العَمْدِ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَيَجِبُ عَلَى هَذِهِ المَرْأَةِ القَاتِلَةِ عَمْدَاً، إِذَا عَفَا عَنْهَا أَوْلِيَاءُ المَقْتُولِ، أَنْ تَتُوبَ إلى اللهِ تعالى تَوْبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً، وَأَنْ تَنْدَمَ عَلَى مَا فَعَلَتْ، وَأَنْ تَجْزِمَ عَلَى أَنْ لَا تَعُودَ.

كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ الدِّيَةَ التي تَمَّ الاتِّفَاقُ عَلَيْهَا مَعَ أَوْلِيَاءِ المَقْتُولِ مِنْ مَالِهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهَا شَيْءٌ مِنَ الدِّيَةِ، وَلَكِنْ لَا مَانِعَ مِنْ مُسَاعَدَتِهَا في الدِّيَةِ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ للكَفَّارَةِ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ عَلَيْهَا الكَفَّارَةُ، وَهِيَ صِيَامُ سِتِّينَ يَوْمَاً.

وَأَنَا أَنْصَحُهَا أَنْ تَأْخُذَ بِقَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهَا بِيَقِينٍ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى لَنَا وَلَهَا صِدْقَ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.