السؤال :
امْرَأَةٌ أَسْرَفَتْ عَلَى نَفْسِهَا كَثِيرَاً، وَوَقَعَتْ في الآثَامِ، وَهِيَ نَادِمَةٌ الآنَ أَشَدَّ النَّدَمِ، فَهَلْ صَحِيحٌ أَنَّ تَوْبَتَهَا لَنْ تُقْبَلَ، وَكَذَلِكَ صَلَاتُهَا وَصِيَامُهَا؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 9878
 2019-08-10

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أولاً: للهِ الحَمْدُ وَالثَّنَاءُ أَنْ وَفَّقَ هَذِهِ المَرْأَةَ للتَّوْبَةِ، وَنَسْأَلُهُ تعالى أَنْ يُثَبِّتَنَا وَإِيَّاهَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ تعالى عَلَيْهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا شُكْرُ اللهِ تعالى الذي وَفَّقَهَا للتَّوْبَةِ، وَكَيْفَ لَا تَشْكُرُ اللهَ تعالى عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ القَائِلُ: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾؟

فَكَمْ مِنْ عَاصٍ مَاتَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى المَعْصِيَةِ وَلَمْ يَتُبْ؟

وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ مَاتَ وَلَمْ يَرْجِعْ إلى اللهِ تعالى؟

ثانياً: الذي قَالَ لَهَا إِنَّ تَوْبَتَهَا لَمْ تُقْبَلْ، وَكَذَلِكَ صَلَاتُهَا وَصِيَامُهَا، هُوَ إِنْسَانٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللهِ تعالى، وَمُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.

وَلَو كَانَ صَاحِبُ القَوْلِ يَقْرَأُ القُرْآنَ العَظِيمَ مَا اجْتَرَأَ عَلَى مِثْلِ هَذَا القَوْلِ، وَهُوَ في الحَقِيقَةِ إِذَا لَمْ يَتُبْ إلى اللهِ تعالى شَيْطَانٌ إِنْسِيٌّ، يَصُدُّ النَّاسَ عَنِ اللهِ تعالى، وَقَوْلُهُ مُنْكَرٌ وَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، وَصَدَقَ فِيهِ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبَاً﴾.

ثالثاً: لَقَدْ دَلَّتْ كَثِيرٌ مِنَ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ وَالأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى أَنَّ اللهَ تعالى يَقْبَلُ مِنْ عَبْدِهِ التَّوْبَةَ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ مَهْمَا عَظُمَتْ، وَيَحْرُمُ عَلَى العَبْدِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ مَهْمَا بَلَغَتْ ذُنُوبُهُ كَثْرَةً وَقُبْحَاً.

قَالَ تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامَاً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانَاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحَاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورَاً رَحِيمَاً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابَاً﴾.

وَحَدِيثُ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ مَعْلُومٌ وَمَشْهُورٌ.

وروى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا بْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئَاً لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».

وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فتوبة هَذِهِ المَرْأَةُ الَّتي  ـ وَقَعَتْ في الآثَامِ، وَأَسْرَفَتْ عَلَى نَفْسِهَا، ثُمَّ نَدِمَتْ وَتَابَتْ وَصَدَقَتْ في تَوْبَتِهَا إلى اللهِ تعالى ـ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ تعالى لَهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.

وَيُخْشَى عَلَى مَنْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ القَوْلَ أَنْ يَنْدَرِجَ تَحْتَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ: «أَنَّ رَجُلَاً قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» أَوْ كَمَا قَالَ.

فَعَلَى هَذِهِ المَرْأَةِ أَنْ تَسْتَمِرَّ في تَوْبَتِهَا، وَلْتَسْأَلِ اللهَ تعالى الثَّبَاتَ وَالاسْتِقَامَةَ، وَلْتُحَافِظْ عَلَى صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا، وَهِيَ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى مِنَ المَحْبُوبِينَ عِنْدَ اللهِ تعالى بِدَوَامِ صِدْقِهَا عَلَى تَوْبَتِهَا. هذا، والله تعالى أعلم.