380ـ خطبة الجمعة: «كنت أرى لك عقلاً رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير»

 

 380ـ خطبة الجمعة: «كنت أرى لك عقلاً رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير»

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله، إنَّ مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أنَّ الأُمَّةَ تَعيشُ في شِدَّةٍ وبَلاءٍ وكَربٍ عَظيمٍ، ولكن وبِكُلِّ أَسَفٍ هُناكَ من يَزيدُ هذا الحَالَ الذي تَمُرُّ به الأُمَّةُ حَالَ اليَأسِ والتَّقنيطِ من رَحمَةِ الله عزَّ وجلَّ.

فالكَثيرُ من النَّاسِ يُيَئِّسُ الأُمَّةَ ويُقَنِّطُها، وحتَّى إذا سَمِعوا من طُلَّابِ العِلمِ أو العُلَماءِ من يَتَحَدَّثُ عن التَّفَاؤُلِ والأمَلِ والاستِبشارِ فإذا بِهِم يُحَاوِلونَ بَثَّ اليَأسِ والقُنوطِ في نُفوسِ طُلَّابِ العِلمِ والعُلَماءِ.

بَعضُهُم يَقولُ: لا فَائِدَةَ من الحَديثِ مَعَ الأُمَّةِ.

وآخَرُ يَقولُ: لن تَسمَعَ مِنكَ الأُمَّةُ حَديثَ الهِدَايَةِ والصَّلاحِ.

وآخَرُ يَقولُ: لا تُتعِبْ نَفسَكَ فقد شَرَدَ النَّاسُ.

وآخَرُ يَقولُ: إنَّكَ تُؤَذِّنُ في خَرَابَةٍ.

وآخَرُ يَقولُ: إنَّكَ تَنفُخُ في قِربَةٍ مَخروقَةٍ.

والآخَرُ يَقولُ:

لقد أسمَعتَ لـو نَادَيتَ حَيَّاً   ***   ولـكن لا حَـياةَ لمن تُنادِي

ولو ناراً نَفَخْتَ بها أضاءَت   ***   ولكن أنتَ تَنفُخُ في رَمادِ

والبَعضُ يَقولُ: ما بَقِيَ من خَيرٍ في شَبابِ الأُمَّةِ ولا في شَابَّاتِها، فَكَبِّروا على الأُمَّةِ أربَعَ تَكبيراتٍ، فقد ماتَتِ الأُمَّةُ، والقِيامَةُ قد قَرُبَت، فلا صَلاحَ ولا إصلاحَ.

هذا لَيسَ من هَدْيِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

يا عباد الله، قولوا لمن يَقولُ هذهِ الكَلِماتِ وأمثالِها، قولوا لمن يَفُتُّ في عَضُدِ الأُمَّةِ، قولوا لمن يُيَئِّسُ الأُمَّةَ ويُقَنِّطُها، قولوا للمُتَشَائِمينَ: هذا الكَلامُ الذي تَقُولونَهُ، من أينَ مَصْدَرُهُ؟!

هل وَجَدتُم مِثلَ هذهِ الكَلِماتِ في حَياةِ وسِيرَةِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ هل قَرَأتُم وسَمِعتُم عن سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي كانَ يَدعُو المُجتَمَعَ الوَثَنِيَّ المُشرِكَ، المُجتَمَعَ الذي أعرَضَ عن الله عزَّ وجلَّ كُلَّ الإعراضِ، المُجتَمَعَ الذي مُلِئَ ظُلماً، يَقولُ مِثلَ هذهِ الكَلِماتِ؟!

اليَأسُ والقُنوطُ لَيسَ من شَأنِ المُؤمِنِ، اليَأسُ والقُنوطُ من شَأنِ أهلِ الغَفلَةِ عن الله تعالى، الذينَ لا يَعرِفونَ إلا الأسبابَ الظَّاهِرَةَ، الذينَ يَعلَمونَ ظَاهِراً من الحَياةِ الدُّنيا.

سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ما يَئِسَ من إيمانِ المُشرِكينَ، ما يَئِسَ من شَرْحِ صُدُورِهِم للإسلامِ، على العَكسِ من ذلكَ تَماماً.

«أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً»

يا عباد الله، كلُّنا يَعلَمُ يَومَ الطَّائِفِ، عِندَما جاءَ سَيِّدُنا جِبريلُ عَلَيهِ السَّلامُ إلى سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ومَعَهُ مَلَكُ الجِبالِ، وقالَ لَهُ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ ـ فَقَالَ ذَلِكَ ـ فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِم الْأَخْشَبَيْنِ؟

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» رواه الشيخان عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها.

هل سَمِعَ هذا الكَلامَ من قالَ:

لقد أسمَعتَ لـو نَادَيتَ حَيَّاً   ***   ولـكن لا حَـياةَ لمن تُنادِي

ولو ناراً نَفَخْتَ بها أضاءَت   ***   ولكن أنتَ تَنفُخُ في رَمادِ

«إنَّ اللهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجاً وَمَخْرَجاً»:

يا عباد الله، قولوا لمن يُيَئِّسُ الأُمَّةَ، ويَقولُ بأنَّ شَبابَها وشَابَّاتِها قد ماتَت أخلاقُهُم وقِيَمُهُم، ويَقولُ: ماتَتِ الأُمَّةُ، ولن يَكونَ هُناكَ فَرَجٌ ومَخرَجٌ، قولوا لهؤلاءِ: هذا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقولُ لِسَيِّدِنا زَيدِ بنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وهوَ وَاقِفٌ على بَابِ مَكَّةَ:

«يَا زَيْدُ، إنَّ اللهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجاً وَمَخْرَجاً، وَإِنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ». من زادِ المَعادِ.

لقد بَثَّ في نَفسِ زَيدٍ الأمَلَ والتَّفَاؤُلَ والثِّقَةَ بالله عزَّ وجلَّ، ولو انقَطَعَت جَميعُ الأسبابِ.

كَيفَ يَقولُ هؤلاءِ: ما بَقِيَ خَيرٌ في شَبابِ الأُمَّةِ ولا في شَابَّاتِها، وسَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَذَلِكَ» رواه الإمام مسلم عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

«كُنتُ أَرَى لَكَ عَقلاً رَجَوتُ أن لا يُسلِمَكَ إلا إلى خَيرٍ»:

يا عباد الله، قولوا لِكُلِّ يَائِسٍ من صَلاحِ أفرادِ المُجتَمَعِ، وكُلِّ يَائِسٍ من صَلاحِ زَوجَتِهِ وَوَلَدِهِ وبِنتِهِ، قولوا لمن قالَ: ماتَ الخَيرُ في المُجتَمَعِ، ولا طَمَعَ في صَلاحٍ ولا إصلاحٍ، قولوا لهؤلاءِ: اِسمَعوا كَلامَ سَيِّدِنا خَالِدِ بنِ الوَليدِ، الذي فَعَلَ ما فَعَلَ بالمُسلِمينَ يَومَ أُحُدٍ، والذي اتَّخَذَ المَوَاقِفَ مَوَاقِفَ العِدَاءِ لِرَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يَقولُ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وهوَ يَتَحَدَّثُ عن قِصَّةِ إسلامِهِ:

فَاطَّلَعتُ عَلَيهِ، فَمَا زَالَ يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ حتَّى وَقَفتُ عَلَيهِ، فَسَلَّمتُ عَلَيهِ بالنُّبُوَّةِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ بِوَجْهٍ طَلْقْ.

فَقُلتُ: إِنِّي أَشهَدُ أنْ لا إِلهَ إلا اللهُ، وأَنَّكَ رَسولُ الله.

فقالَ: «تَعالَ».

ثمَّ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الحَمدُ لله الذي هَدَاكَ، قد كُنتُ أَرَى لَكَ عَقلاً رَجَوتُ أن لا يُسلِمَكَ إلا إلى خَيرٍ».

قُلتُ: يا رَسولَ الله، قَد رَأَيتَ ما كُنتُ أَشهَدُ من تِلكَ المَواطِنِ عَلَيكَ مُعَانِدَاً عن الحَقِّ، فَادْعُ اللهَ يَغفِرْها لي.

فقالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الإسلامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبلَهُ».

قُلتُ: يا رَسولَ الله، على ذلكَ.

قال: «اللَّهُمَّ اغفِرْ لِخَالِدِ بنِ الوَليدِ كُلَّ ما أَوضَعَ فِيهِ من صَدٍّ عن سَبيلِكَ» رواه البيهقي.

يا عباد الله، هكذا تَكونُ نَظرَةُ المُتَفائِلِ الذي يَرجو الخَيرَ للأُمَّةِ ولِشَبابِها ولِشَابَّاتِها، لا تَقولوا: كَبِّروا على هذهِ الأُمَّةِ أربَعَ تَكبيراتٍ؛ قولوا للأُمَّةِ كُلِّها: التَّوبَةُ تَجُبُّ ما قَبلَها، والتَّائِبُ من ذَنبِهِ كَمَن لا ذَنبَ لَهُ، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

«إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ»:

يا عباد الله، لقد كانَ هَدْيُ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على العَكسِ تَماماً مِمَّا يَقولُهُ هؤلاءِ الذينَ يَأَّسوا الأُمَّةَ من رَحمَةِ الله تعالى، ويَأَّسوا الدُّعاةَ إلى الله تعالى في ظَنِّهِم من صَلاحِ الأُمَّةِ.

لِيَسمَعْ هؤلاءِ المُتَشَائِمونَ من صَلاحِ الأُمَّةِ، والقَائِلونَ: هَلَكَ النَّاسُ، لِيَسمَعْ هؤلاءِ حَديثَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَيثُ قَالَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

من قالَ: هَلَكَ النَّاسُ، فهوَ أهلَكُهُم، لأنَّهُ رَجُلٌ مَغرورٌ، لأنَّهُ رَجُلٌ مُستَعْلٍ على خَلْقِ الله تعالى، اِغتَرَّ بِصَلاتِهِ وصِيَامِهِ، فَأورَثَهُ ذلكَ عِزَّاً واستِكباراً، حتَّى ظَنَّ نَفسَهُ أنَّهُ ناجٍ وغَيرُهُ هَالِكٌ.

لِيَسمَعْ هؤلاءِ قَولَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

إنَّها كَلِماتُ المُتَفائِلِ بِصَلاحِ الأُمَّةِ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عباد الله، تَفَاءَلوا ولا تَتَشَاءَموا، تَفَاءَلوا بِصَلاحِ الأُمَّةِ، وبِصَلاحِ شَبابِها وشَابَّاتِها، ذَكِّروهُم بالله تعالى بالتي هيَ أحسَنُ، وكونوا على يَقينٍ بأنَّ اللهَ تعالى جَاعِلٌ لما نَرَى فَرَجاً ومَخرَجاً، كَيفَ لا ورَبُّنا عزَّ وجلَّ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، ورَبُّنَا يُحيي العِظامَ وهيَ رَميمٌ، ورَبُّنا يَقولُ للشَّيءِ: كُن، فَيَكونُ.

يا عباد الله، لا تَقولوا لا فَائِدَةَ، ولا تَقولوا:

لقد أسمَعتَ لـو نَادَيتَ حَيَّاً   ***   ولـكن لا حَـياةَ لمن تُنادِي

ولو نـاراً نَفَخْتَ بها أضاءَت   ***   ولـكن أنتَ تَنفُخُ في رَمادِ

أسألُ اللهَ تعالى أن يُلهِمَنا رُشدَنا، ويَكشِفَ كُربَتَنا، ويُصلِحَ أحوالَنا، ويَرُدَّنا إلَيهِ رَدَّاً جَميلاً. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 3/رجب/1435هـ، الموافق: 2/أيار/ 2014م