381ـ خطبة الجمعة: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَ

 

 381ـ خطبة الجمعة: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله، نَحنُ نَعيشُ هذهِ الأزمَةَ في هذا البَلَدِ الحَبيبِ إلى قُلوبِنا ـ وأسألُ اللهَ تعالى أن يُفَرِّجَ عنَّا عَاجِلاً غَيرَ آجِلٍ ـ نَتَطَلَّعُ إلى فَرَجٍ من الله قَريبٍ، وانتِظارُ الفَرَجِ عِبادَةٌ.

نَعيشُ هذهِ الأزمَةَ ونَتَطَلَّعُ إلى الأجرِ العَظيمِ الذي وَعَدَ اللهُ تعالى به عِبَادَهُ الصَّابِرِينَ بَعدَ الابتِلاءِ، وذلكَ من خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. وقَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

يا عباد الله، نَتَطَلَّعُ من خِلالِ هذهِ الأزمَةِ أن يُكَفِّرَ اللهُ تعالى عنَّا سَيِّئاتِنا، وأن يَرفَعَ دَرَجَاتِنا بِفَضْلِهِ، وأن يُخرِجَنا من هذهِ الدُّنيا ولا خَطيئَةَ عَلَينا إن شاءَ اللهُ تعالى.

«كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»:

يا عباد الله، يا من يَنتَظِرُ الفَرَجَ من الله تعالى، ويَحلُمُ بأجرِ الصَّابِرِينَ عِندَ الله تعالى، أقولُ لِنَفسِي ولَكُم جَميعاً: كُفُّوا ألسِنَتَكُم عَمَّا يُسخِطُ اللهَ تعالى، كُفُّوا ألسِنَتَكُم ولا تَتَأَلَّوا على الله تعالى، كُفُّوا ألسِنَتَكُم ولا تقولوا على الله ما لا تَعلَمونَ، واسمَعوا حَديثَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟».

فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله.

قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الإِسلامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ».

ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟».

فَقُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ الله.

فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا».

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ.

فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ ـ أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ ـ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».

يا عباد الله، كُلُّ وَاحِدٍ منَّا سَيُسألُ عن أقوالِهِ وأفعالِهِ يَومَ القِيامَةِ، فالسَّعيدُ من كَفَّ لِسانَهُ.

يا عباد الله، كُفُّوا ألسِنَتَكُم عمَّا حَذَّرَكُمُ الشَّرعُ عَنهُ، كُفُّوا ألسِنَتَكُم، فلا تُغالوا في حَقِّ من أحبَبْتُم، لا تقولوا: هذا في الجَنَّةِ، هذا من أهلِ الثَّوابِ، هذا من السُّعَداءِ يَومَ القِيامَةِ، هذا سَيُغفَرُ لَهُ.

وكُفُّوا ألسَنَتَكُم، فلا تُفرِطوا في حَقِّ من أبغَضتُم، لا تَقولوا: هذا من أهلِ النَّارِ، هذا من أهلِ العِقابِ، هذا من أهلِ الشَّقاءِ، هذا لن يَغفِرَ اللهُ تعالى لَهُ.

يا عباد الله، قَيِّدوا أنفُسَكُم وألسِنَتَكُم خاصَّةً بالكِتابِ والسُّنَّةِ، فما كُلِّفنا بالحُكمِ على من نُحِبُّ أو على من نُبغِضُ، ولنَسمَعْ إلى هَدْيِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحَالَتَينِ.

«والله مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ الله مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ»:

يا عباد الله، خُذُوا هذا المِثالَ في حَقِّ من أحبَبْتُم، حتَّى لا تُغالوا، روى الإمام البخاري عَنْ خارِجَةَ، أنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَتْ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَتْ: طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَت الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ، فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقُلْتُ: رَحْمَةُ الله عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ.

قَالَ: «وَمَا يُدْرِيكِ؟».

قُلْتُ: لَا أَدْرِي والله.

قَالَ: «أَمَّا هُوَ، فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ مِن الله، والله مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ الله مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ».

قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ: فوالله لَا أُزَكِّي أَحَداً بَعْدَهُ.

وجَاءَ في الطَّبَقاتِ الكُبرَى لابنِ سَعدٍ قالت: هَنيئاً لَكَ أبا السَّائِبِ الجَنَّةَ.

فقال لها رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وما يُدرِيكِ؟».

فقالت: يا رَسولَ الله، أبو السَّائِبِ.

قال: «والله ما نَعلَمُ إلا خَيراً».

ثمَّ قال: «بِحَسبِكِ أن تَقُولِي: كَانَ يُحِبُّ اللهَ ورَسُولَهُ».

يا عباد الله، لِنَكُفَّ ألسِنَتَنا، ولا نَتَأَلَّى على الله في حَقِّ من ماتَ، وخاصَّةً بَعدَ قَولِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «والله مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ الله مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ».

خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيباً

يا عباد الله، خُذُوا هذا المِثالَ الثَّاني في حَقِّ من أبغَضتُم، حتَّى لا تُفرِطوا، روى أبو داود عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ.

فَيَقُولُ: أَقْصِرْ.

فَوَجَدَهُ يَوْماً عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ.

فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيباً.

فَقَالَ: والله لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ.

فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِماً، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِراً؟

وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُل الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي.

وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.

كُلِّفنا بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ:

يا عباد الله، لقد كَلَّفَنا رَبُّنا عزَّ وجلَّ بالأمرِ بالمَعروفِ، وبالنَّهيِ عن المُنكَرِ، وما كَلَّفَنا رَبُّنا عزَّ وجلَّ بالحُكمِ على العِبادِ في جَنَّةٍ أو نارٍ، أو أنَّهُم سُعَداءُ أو أشقِياءُ، لأنَّهُ هُناكَ من تَغلِبُهُ نَفسُهُ فَيَقَعُ في المَعصِيَةِ مَعَ الإقرارِ بأنَّها مَعصِيَةٌ، وَرُبَّ مَعصِيَةٍ أورَثَت ذُلَّاً وانكِساراً، خَيرُ من طَاعَةٍ أورَثَت عِزَّاً واستِكباراً.

يا عباد الله، رَبُّنا عزَّ وجلَّ لم يُطلِعْنَا على الغَيبِ، ولا يَدرِي أحَدُنا بِمَ يُختَمُ لَهُ، فَضْلاً عن مَعرِفَةِ غَيرِنا بأيِّ شَيءٍ يُختَمُ لَهُ، فلا تَرفَعوا أنفُسَكُم إن كُنتُم من أهلِ الطَّاعَةِ، مُروا بالمَعروفِ، وانهَوا عن المُنكَرِ، وفَوِّضوا الأمرَ لله تعالى.

يا عباد الله، هذا العَابِدُ من بَني إسرائيلَ أوبَقَ دُنياهُ وآخِرَتَهُ عِندَما تَأَلَّى على الله تعالى، وأقسَمَ بأنَّ اللهَ تعالى لن يَغفِرَ لِصَاحِبِهِ، ولن يُدخِلَهُ الجَنَّةَ.

«لَا تَلْعَنُوهُ، فوالله مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ»:

يا عباد الله، ونَحنُ نَتَطَلَّعُ إلى الفَرَجِ القَريبِ، ونَطمَعُ بأجرِ الصَّابِرِينَ، عَلَينا أن نَكُفَّ ألسِنتَنَا فلا نَتَأَلَّى على الله تعالى في حَقِّ من  أحبَبنا، ولا في حَقِّ من أبغَضْنا.

وعَلَينا أن نَكُفَّ عن اللَّعنِ في حَقِّ من أبغَضْناهُ، وخُذُوا هذا الأمرَ من سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الله، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَاراً، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْماً، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْعَنُوهُ، فوالله مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ».

وفي رِوايَة الإمام أحمد يَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَكُونُوا عَوْناً لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عباد الله، كُفُّوا ألسِنَتَكُم عَمَّا حَذَّرَكُمُ اللهُ تعالى مِنهُ، فلا تُغالوا في حَقِّ من أحبَبْتُم، ولا تُفرِطوا في حَقِّ من أبغَضْتُم، وكُفُّوا عن اللَّعنِ، ولا تَحكُموا على أحَدٍ بِجَنَّةٍ ولا بِنارٍ، ولا بِسَعَادَةٍ أو بِشَقاوَةٍ، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. وقال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾.

أسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخِتامِ لنا جَميعاً. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 10/رجب/1435هـ، الموافق: 9/أيار/ 2014م