385ـ خطبة الجمعة: الرجولة لا تكون في الظلم

 

 385ـ خطبة الجمعة: الرجولة لا تكون في الظلم

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله، كُلُّ عَامِلٍ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا لَهُ هَدَفٌ يُريدُ الوُصُولَ إلَيهِ، وكُلُّ مُجتَهِدٍ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُريدُ أن يَصِلَ إلَيها.

وقِيمَةُ كُلِّ إنسانٍ من قِيمَةِ هَدَفِهِ وغَايَتِهِ، فَكُلَّما كَانَ الهَدَفُ والغَايَةُ سَامِياً كَانَ الإنسانُ سَامِياً، وكُلَّما كَانَ الهَدَفُ والغَايَةُ دَنيئاً كَانَ الإنسانُ دَنيئاً.

النَّاسُ على قِسمَينِ:

يا عباد الله، النَّاسُ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا على قِسمَينِ:

القِسمُ الأوَّلُ: قِسمٌ أرادَ الحَياةَ الدُّنيا وزِينَتَها وزَخَارِفَها وبَهَارِجَها، أرادَ الحَياةَ الدُّنيا المُزَيَّنَةَ للنَّاسِ، كما قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾.

هذا القِسمُ جَعَلَ الحَياةَ الدُّنيا هَدَفَهُ وغَايَتَهُ، فَكَانَت قِيمَتُهُ مُستَمَدَّةً من قِيمَةِ هَدَفِهِ وغَايَتِهِ.

القِسمُ الثَّاني: وقِسمٌ أرادَ اللهَ تعالى والدَّارَ الآخِرَةَ ونَعِيمَها، وسَعَى لَها سَعْيَها.

وبما أنَّ الجَمِيعَ من القِسمَينِ عَبِيدٌ لله عزَّ وجلَّ، فَرَبُّنا عزَّ وجلَّ يُعطِي لِكُلِّ فَرِيقٍ ما أرادَ من خِلالِ إرَادَتِهِ تعالى ومَشِيئَتِهِ، قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلَّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾.

يا عباد الله، مَآلُ القِسمِ الأوَّلِ، الذينَ أرادوا العَاجِلَةَ دُونَ الآجِلَةِ، وأقبَلوا على الفَانِيَةِ دُونَ البَاقِيَةِ، إلى خُسرانٍ عَاجِلٍ في الدُّنيا قَبلَ الآخِرَةِ والعِياذُ بالله تعالى، كما ذَكَرَ اللهُ تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً﴾.

وأمَّا القِسمُ الثَّاني، الذينَ أرادوا اللهَ تعالى والدَّارَ الآخِرَةَ، وسَعَوا لَها سَعْيَها، فهؤلاءِ كَانَ سَعْيُهُم مَشكوراً، هذا القِسمُ أتعَبوا أنفُسَهُم في حَيَاتِهِمُ الدُّنيا، وحَمَلُوها على الالتِزامِ بِكِتابِ الله عزَّ وجلَّ في سَاعَةِ الجِدِّ والهَزْلِ، في سَاعَةِ العَطَاءِ والمَنْعِ، في الرَّفعِ والخَفضِ، هؤلاءِ أتعَبُوا أنفُسَهُم بِكَثْرَةِ الطَّاعاتِ والقُرُباتِ.

وأنا على يَقِينٍ بأنَّ الذينَ يَشهَدُونَ الجُمُعَةَ والجَمَاعاتِ، ويَصُومونَ شَهْرَ رَمَضانَ، ويُؤَدُّونَ الزَّكاةَ، ويَقرَؤونَ القُرآنَ، ويُصَلُّونَ ويَصُومونَ النَّافِلَةَ، ويُكثِرونَ من ذِكْرِ الله تعالى، هؤلاءِ يُريدونَ الآخِرَةِ، ويَسعَونَ لَها سَعْيَها، وأرجو اللهَ تعالى لنا ولَهُمُ القَبُولَ.

«إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ الله انْتَهَكُوهَا»:

يا عباد الله، هُناكَ قِسمٌ مِمَّن أرادَ الآخِرَةَ في ظَاهِرِ الأمرِ، وسَعَى لَها سَعْيَها، أكثَروا من الطَّاعاتِ والقُرُباتِ، إلا أنَّهُم لم يَتَوَرَّعوا عن المَظَالِمِ، ولم يَتَجَنَّبوا المَحَارِمَ، فأكَلُوا حُقُوقَ العِبَادِ، وكَانوا سَبَباً في سَفْكِ دِماءِ الأبرِياءِ، بل بَعضُهُم سَفَكَ دِماءَ الأبرِياءِ، هؤلاءِ يَأتونَ يَومَ القِيَامَةِ بأعمالٍ صَالِحَةٍ كالجِبالِ، فَيَجعَلُها اللهُ هَباءً مَنثوراً، مَعَ أنَّهُم آمَنوا بالله تعالى رَبَّاً، وبالإسلامِ دِيناً، وبِسَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيَّاً رَسولاً، وما ذاكَ إلا لأنَّهُم انتَهَكوا حُرَماتِ الله تعالى.

روى ابنُ ماجه عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً».

قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ الله، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ.

قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِن اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ الله انْتَهَكُوهَا».

يا عباد الله، هُناكَ قِسمٌ من النَّاسِ في ظَاهِرِ الأمرِ أرادُوا الآخِرَةَ وسَعَوا لَها سَعْيَها، إلا أنَّهُم في جَوفِ اللَّيلِ، وفي خَلَواتِهِم:

قَذَفوا الأعراضَ سِرَّاً، وإذا شَهِدوا النَّاسَ أشهَدوا اللهَ على ما في قُلُوبِهِم وهُم ألَدُّ الخِصَامِ.

وأكَلوا أموالَ النَّاسِ بالبَاطِلِ ظَنَّاً مِنهُم أنَّهُم ما عَرَفوا.

وسَفَكوا الدِّماءَ البَرِيئَةَ.

وضَرَبوا العِبَادَ.

هؤلاءِ إذا جَاؤوا يَومَ القِيَامَةِ بالأعمالِ الصَّالِحَةِ التي كالجِبالِ يَجعَلُها رَبُّنا عزَّ وجلَّ هَباءً مَنثوراً.

«أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟»:

يا عباد الله، هذا القِسمُ من العِبَادِ الذينَ أرادوا الآخِرَةَ، وسَعَوا لَها سَعْيَها في ظَاهِرِ الأمرِ هُمُ المُفلِسُونَ يَومَ القِيَامَةِ والعِياذُ بالله تعالى.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟».

قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.

فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».

يا عباد الله، من كَانَ يُريدُ العَاجِلَةَ، وصَدَرَ مِنهُ الشَّتْمُ، والقَذْفُ، وأكْلُ الأموالِ بالبَاطِلِ، وسَفْكُ الدِّماءِ البَرِيئَةِ، وضَرْبُ العِبَادِ، فالأمرُ لَيسَ بِغَرِيبٍ مِنهُ، لأنَّهُ في غَالِبِ الأمرِ ما صَدَقَ وما صَلَّى وما صَامَ وما زَكَّى، ولكنَّ الأمرَ الغَرِيبَ أن يَصدُرَ الشَّتْمُ، والقَذْفُ، وأكْلُ الأموالِ بالبَاطِلِ، وسَفْكُ الدِّماءِ البَرِيئَةِ، وضَرْبُ العِبَادِ، مِمَّن في ظَاهِرِهِ أرادَ الآخِرَةَ، وسَعَى لَها سَعْيَها وهوَ مُؤمِنٌ.

كُفَّ يَدَكَ ولِسَانَكَ:

يا عباد الله، يا أيَّتُها الأُمَّةُ المَظلُومَةُ المَقهُورَةُ، التي بَلَغَ الغَيظُ في قَلبِها مَبلَغاً لا يَعلَمُهُ إلا اللهُ تعالى: ألا تُريدُونَ الآخِرَةَ ونَعِيمَها؟ ألا تُريدُونَ جَنَّةً فيها ما لا عَينٌ رَأَت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ؟ ألا تُريدُونَ نَعِيماً مُتَوَّجاً بِقَولِهِ تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾؟ يا من أرادَ هذا النَّعِيمَ:

كُفَّ عَلَيكَ لِسَانَكَ ويَدَكَ في سَاعَةِ الغَضَبِ.

كُفَّ لِسَانَكَ ويَدَكَ عمَّن يَقولُ: لا إلهَ إلا اللهُ.

كُفَّ لِسَانَكَ ويَدَكَ عن أعراضِ المُسلِمينَ، ولا تُفَرِّقْ بَينَ الأَحِبَّةِ.

كُفَّ يَدَكَ عن أموالِ العِبَادِ بِغَيرِ حَقٍّ.

الرُّجُولَةُ لا تَكُونُ في الظُّلمِ:

يا عباد الله، لَيسَتِ الرُّجُولَةُ في ظُلمِ العِبَادِ، ولَيسَتِ الرُّجُولَةُ في قَذْفِ الأعراضِ، ولَيسَتِ الرُّجُولَةُ في أكْلِ أموالِ العِبَادِ بِغَيرِ حَقٍّ، ولَيسَتِ الرُّجُولَةُ في سَفْكِ الدِّماءِ البَرِيئَةِ، ولَيسَتِ الرُّجُولَةُ في ضَرْبِ العِبَادِ.

الرُّجُولَةُ أن تُحَافِظُوا على طَاعاتِكُم وحَسَنَاتِكُم وقُرُباتِكُم.

الرُّجُولَةُ أن لا تَتَحَوَّلَ طَاعاتُكُ إلى من أبغَضْتَهُ.

الرُّجُولَةُ أن لا تُحَكِّمَ الآخَرينَ في حَسَنَاتِكَ يَومَ القِيَامَةِ.

الرُّجُولَةُ أن لا تَفعَلَ أفعالَ الذينَ يُريدُونَ العَاجِلَةَ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عباد الله، يا من يَنتَظِرونَ الفَرَجَ من الله تعالى، حَافِظُوا على طَاعاتِكُم وحَسَنَاتِكُم بِضَبْطِ اللِّسانِ واليَدِ، فإيَّاكُم والشَّتمَ، إيَّاكُم والقَذْفَ، إيَّاكُم وأكلَ أموالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ، سَواءٌ كَانَت أموالاً عامَّةً أو خَاصَّةً، إيَّاكُم وسَفْكَ الدِّماءِ البَرِيئَةِ، إيَّاكُم وضَرْبَ العِبَادِ.

بل إيَّاكُم ثمَّ إيَّاكُم أن تَكونوا سَبَاً للشَّتْمِ، والقَذْفِ، وأكْلِ الأموالِ بالبَاطِلِ، وسَفْكِ الدِّماءِ، وضَرْبِ العِبَادِ، ولا تَكونوا سَبَباً للتَّفرِيقِ بَينَ الأحِبَّةِ.

بل كونوا سَبَباً لِجَمْعِ شَمْلِ الأُمَّةِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، كونوا سَبَباً للصَّلاحِ والإصلاحِ، لأنَّ الذي يَسعَى في الأرضِ فَسَاداً وإفسَاداً لا يُريدُ الآخِرَةَ، ولا يَسعَى لَها سَعْيَها.

يا عباد الله، نَحنُ في ظَاهِرِ الأمرِ من خِلالِ صَلاةِ الجُمُعَةِ والجَماعاتِ نُريدُ اللهَ تعالى والدَّارَ الآخِرَةَ، فَلْنُحَافِظْ على طَاعاتِنا وعِبَاداتِنا، حتَّى إذا ما جَاءَت سَكَراتُ المَوتِ قُلنا بِلِسَانِ الحَالِ والمَقَالِ:وا طَرَباهُ، غَداً نَلقَى الأحِبَّةَ، سَيِّدَنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وصَحْبَهُ، وأرجو اللهَ تعالى أن لا نَكون مِمَّن يَقولُ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

أسألُ اللهَ تعالى أن لا يَجعَلَ لأحَدٍ عَلَينا تَبِعَةً يَومَ القِيَامَةِ، وأن لا يُحَكِّمَ أحَداً بِحَسَنَاتِنا، وأن لا نَحمِلَ من أوزارِ العِبَادِ شَيئاً. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 8/شعبان/1435هـ، الموافق: 6/أيار/ 2014م