386ـ خطبة الجمعة: {وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ}

 

 386ـ خطبة الجمعة: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ﴾

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، أُمَّةُ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هيَ أُمَّةٌ مَرحُومَةٌ إن شاءَ اللهُ تعالى، وهيَ أُمَّةٌ مَنصُورَةٌ بإذنِ الله تعالى، تَمرَضُ هذهِ الأُمَّةُ، ورُبَّما أن يَكونَ مَرَضُها فَادِحاً، ولكنَّها لن تَمُوتَ بإذنِ الله عزَّ وجلَّ، وتُجرَحُ هذهِ الأُمَّةُ جُرُوحاً بَلِيغَةً، ولكنَّها لن تُذبَحَ بإذنِ الله تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ، فِي أيَّامِ الأزَماتِ والشَّدَائِدِ يَجِبُ عَلَيَّ وعَلَيكُم أن نَحرِصَ على إيمانِنا من أن يَتَخَلخَلَ، وعلى ثِقَتِنا بِرَبِّنا من أن تَتَزَعزَعَ، لأنَّ الإيمانَ إذا تَخَلخَلَ، والثِّقَةَ بالله تعالى ضَعُفَت، كَانَت مُصِيبَةَ المَصَائِبِ، والتي يَهُونُ دُونَها سَفْكُ الدِّمَاءِ، وتَهْدِيمُ البُيُوتِ، وسَلْبُ الأموالِ، فَكُلُّ مُصِيبَةٍ بِجَانِبِ مُصِيبَةِ الدِّينِ هَيِّنَةٌ وبَسِيطَةٌ ولا قِيمَةَ لَها.

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، هذهِ الأُمَّةُ ـ أُمَّةُ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ لَيسَت كَغَيرِها من الأُمَمِ، لأنَّ اللهَ تعالى اختَارَها لِتَكُونَ آخِرَ الأُمَمِ، حَامِلَةً للقُرآنِ العَظِيمِ، هذهِ الأُمَّةُ هيَ الأُمَّةُ المَوعُودَةُ بالنَّصْرِ مِنَ اللهِ تعالى، وأن تَكونَ العَاقبَةُ لَها بإذنِ اللهِ تعالى.

هذهِ الأُمَّةُ هيَ الأُمَّةُ المَحفُوظَةُ ـ بِسِرِّ حِفْظِ القُرآنِ العَظِيمِ ـ مِنَ الهَلاكِ العَامِّ وهيَ أُمَّةُ الاستِعلاءِ والرُّسُوخِ والثَّباتِ، رَغمَ كُلِّ الجِرَاحِ التي تُصِيبُ الأُمَّةَ، ورَغمَ كُلِّ الشَّدَائِدِ والمِحَنِ والمَصَائِبِ والرَّزَايا، ومَهما كَثُرَ القَتْلُ، ومَهما عَظُمَ التَّآمُرُ عَلَيها.

وإذا أرَدتُم مِصدَاقَ هذا الكَلامِ، فاقرَؤُوا إِنْ شِئتُم قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. هذهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ نَزَلَت على سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ التي خَلَّفَتْ سَبعِينَ شَهِيداً من خِيرَةِ أصحَابِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وعلى رَأسِهِم سَيِّدُنا حَمزَةُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

هذهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ نَزَلَت على قَلبِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعدَ جرَاحٍ بَلِيغَةٍ أصَابَتِ الأُمَّةَ، وبَعدَ أن شُجَّ وَجْهُ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وبَعدَ أن كُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ العِزَّةَ والرِّفعَةَ والعُلُوَّ والمَكَانَةَ لهذهِ الأُمَّةِ بإذنِ الله تعالى في سَائِرِ أحوَالِها، في انتِصَارِها وفي انكِسَارِها، في أمْنِها في خَوْفِها، في عِزِّها وفي ذُلِّها، في كَثرَتِها وفي قِلَّتِها، ما دَامَت مُؤمِنَةً مُتَحَقِّقَةً بالإيمانِ الذي يُصَدِّقُهُ العَمَلُ، رَغمَ أنفِ أعدَائِها الذينَ يَتَرَبَّصُونَ بها الدَّوَائِرَ.

﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، اِعتِقَادُنا وخَاصَّةً في الشَّدَائِدِ أنَّهُ لا يَقَعُ شَيءٌ في الكَونِ صَغِيرٌ أو كَبِيرٌ إلا بِعِلمِ الله تعالى وتَقْدِيرِهِ، وتَدبِيرِ اللَّطِيفِ الخَبِيرِ، وأنَّهُ لا يَخرُجُ عن قَدَرِ الله تعالى ولا عن قُدْرَتِهِ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّمَاءِ، وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ في أقدَارِ الله عزَّ وجلَّ حِكَماً خَفِيَّةً، وأسراراً لا يَعلَمُها إلا اللهُ تعالى، وفيها من مَصَالِحِ العِبَادِ العَاجِلَةِ والآجِلَةِ ما لا يَعلَمُهُ إلا اللهُ تعالى.

وإذا عَلِمَ العِبَادُ بأنَّ المَكرُوهَ قد يَأتي بالمَحبُوبِ، والمَحبُوبَ قد يَأتي بالمَكرُوهِ، فإنَّهُم لم يَأمَنوا أن تَأتِيَهُمُ المَضَرَّةُ من جَانِبِ المَسَرَّةِ، فَكَم من مَسَرَّةٍ أعقَبَت مَضَرَّةً، وكذلكَ لم يَيأَسُوا أن تَأتِيَهُمُ المَسَرَّةُ بَعدَ المَضَرَّةِ، وكم من مَسَرَّةٍ جَاءَت بَعدَ مَضَرَّةٍ، وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ واللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

من سَعَادَةِ ابنِ آدَمَ رِضَاهُ بما قَضَى اللهُ عزَّ وجلَّ:

يَا عِبَادَ اللهِ، من سَعَادَةِ ابنِ آدَمَ أن يَرضَى بما قَضَاهُ اللهُ تعالى ولو كَانَ مُرَّاً، ومن شَقَاوَتِهِ أن يَسخَطَ على قَدَرِ اللهِ تَعَالى، روى الإمام أحمد عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ الله، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ».

يَا عِبَادَ اللهِ، كونوا حَرِيصِينَ على إيمانِكُم وثِقَتِكُم باللهِ تعالى، فالمَصَائِبُ لا تَأتيِ إلا بِخَيرٍ للإنسانِ المُؤمِنِ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِ المَصدُوقِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى الإِمَامُ مُسلِمٌ عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ».

سَلْ نَفسَكَ ثَلاثَةَ أسئِلَةٍ:

يَا عِبَادَ اللهِ، قُولُوا لِكُلِّ عَبدٍ مَهمُومٍ حَزِينٍ مَكرُوبٍ مَجرُوحٍ قَلِقٍ أَرِقٍ، قولوا لِكُلِّ من أتعَبَ نَفسَهُ، وأتعَبَ من حَولَهُ بِسَبَبِ الأَرَقِ والقَلَقِ والهَمِّ: اِسمَعْ إلى كَلامِ إبرَاهِيمَ بنِ أدهَم رَحِمَهُ اللهُ تعالى، عِندَما مَرَّ على رَجُلٍ وَجْهُهُ ينَطُقُ بالهَمِّ والحُزنِ، فقالَ إبرَاهِيمُ: إنِّي أَسأَلُكَ عن ثَلاثَةٍ فَأَجِنبِي.

فقالَ الرَّجُلُ: قُلْ.

قالَ إبرَاهِيمُ: أَيَجرِي في هذا الكَونِ شَيءٌ لا يُريدُهُ اللهُ؟

قالَ الرَّجُلُ: لا.

قالَ إبرَاهِيمُ: أَفَيُنقَصَنَّ من رِزقِكَ شَيءٌ قَدَّرَهُ اللهُ؟

قالَ الرَّجُلُ: لا.

قالَ إبرَاهِيمُ: أَفَيُنقَصُ من أَجَلِكَ لَحظَةٌ كَتَبَها اللهُ؟

قالَ الرَّجُلُ: لا.

فقالَ إبرَاهِيمُ: فَعَلَامَ الهَمُّ؟!!

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لِنَثِقْ بِاللهِ تَعَالى، ولنَزِدْ في إيمانِنا حتَّى نَعلَمَ أنَّهُ لن يُصِيبَنا إلا ما كَتَبَهُ اللهُ تعالى لنا، ولنَكُن على يَقِينٍ بأنَّ ما يَجرِي في الكَونِ هوَ بإرَادَةِ الله تعالى ومَشِيئَتِهِ ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾. ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾. ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ﴾.

ولنَكُنْ على يَقِينٍ بأنَّ رِزقَنا مُقَدَّرٌ، لا يَستَطِيعُ أحَدٌ أن يَنْقُصَ مِنهُ شَيئاً ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.

ولنَكُنْ على يَقِينٍ بأنَّ أجَلَنا مَحتُومٌ، لا يَستَطِيعُ أحَدٌ أن يَنْقُصَ مِنهُ شَيئَاً ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾.

نَسأَلُ اللهَ تَعالى زِيَادَةَ الإيمانِ، وحُسنَ الظَّنِّ بالله تعالى، وحُسنَ الاعتِمادِ والتَّوَكُّلِ عَلَيهِ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 15/شعبان/1435هـ، الموافق: 13/أيار/ 2014م