8ـ دروس رمضانية 1435هـ: (الصحة لمن اتَّقى خيرٌ من الغِنى)

 

 8ـ دروس رمضانية 1435هـ: (الصحة لمن اتَّقى خيرٌ من الغِنى)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: نَسمَعُ في وَسَائِلِ الإعلامِ، عن إعلاناتٍ ودِعَايَاتٍ تِجَارِيَّةً، ونَقرَأُ عِبَارَاتٍ جَذَّابَةً لِتَسوِيقِ البَضَائِعِ (لا تَدَعِ الفُرصَةَ تَفُوتُكَ) (فُرصَةُ العُمُرِ) (آخِرُ فُرصَةٍ) (فُرصَةٌ لا تُعَوَّضُ) (حَقِّقْ أحلامَكَ، ولا تَدَعِ الفُرصَةَ تَفُوتُ) (اِغتَنِمِ الفُرصَةَ الأخِيرَةَ) (تَسَوَّقْ قَبلَ انتِهَاءِ فُرصَةِ العَرْضِ) شَيءٌ حَسَنٌ من أجلِ اغتِنَامِ الحَيَاةِ الفَانِيَةِ.

أيُّها الإخوة الكرام: هل فَكَّرَ أَحَدُنَا في اغتِنَامِ فُرصَةِ الحَيَاةِ للتَّقَرُّبِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، لأنَّ فُرصَةَ الحَيَاةِ لا تَتَكَرَّرُ، لقد مَنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَينَا بِنِعمَةِ الحَيَاةِ وبِنِعمَةِ الصِّحَّةِ، فهل من مُغتَنِمٍ لِنِعمَةِ الصِّحَّةِ؟

نِعمَةُ الصِّحَّةِ رَأسُ مَالِ الإنسَانِ:

أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».

الكَثِيرُ من النَّاسِ لا يُقَدِّرُ نِعمَةَ الصِّحَّةِ، فَيَستَغِلُّهَا في مَعصِيَةِ اللهِ عزَّ جلَّ، فمن استَغَلَّهَا في مَعصِيَةِ اللهِ فهوَ المَغبُونُ، ومن استَغَلَّهَا في طَاعَةِ اللهِ ومَرضَاتِهِ فهوَ المَغبُوطُ.

نِعمَةُ الصِّحَّةِ يَتَقَلَّبُ فِيهَا العَبدُ لَيلاً ونَهَاراً، ولا يَحسِبُ لَها حِسَاباً ولا وَزناً ولا قِيمَةً حتَّى يَفقِدَهَا، فإذا فَقَدَهَا عَرَفَ قَدْرَهَا.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَغتَنِمْ فَترَةَ الصِّحَّةِ في مَيدَانِ العَمَلِ الصَّالِحِ، ولا نُؤَخِّرْ حتَّى الكِبَرَ، لأنَّهُ لا يَدرِي أَحَدُنَا هل يَبقَى صَحِيحاً سَلِيماً، أم يَعتَرِيهِ المَرَضُ؟ وعِندَهَا يَندَمُ ولا يَنفَعُهُ النَّدَمُ.

أَوَّلُ ما يُسأَلُ عَنهُ العَبدُ عن نِعمَةِ الصِّحَّةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: الصِّحَّةُ نِعمَةٌ كُبرَى يَطمَحُ إلَيهَا الإنسَانُ لِيَحيَا حَيَاةً سَعِيدَةً في هذهِ الدَّارِ الفَانِيَةِ، وهيَ تُسَاعِدُهُ على القِيَامِ بِوَاجِبَاتِهِ الدِّينِيَّةِ والدُّنيَوِيَّةِ على أَكمَلِ وَجْهٍ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِن الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ باللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». قُوَّةُ إيَمانٍ وقُوَّةُ جَسَدٍ نِعمَةٌ لا تُعَادِلُها نِعمَةٌ.

وما من نِعمَةٍ إلا والعَبدُ سَيُسأَلُ عَنهَا يَومَ القِيَامَةِ، قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾. وَأَوَّلُ النِّعَمِ التي سَيُسأَلُ عَنهَا العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ هيَ نِعمَةُ الصِّحَّةِ، روى الترمذي عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ـ يَعْنِي الْعَبْدَ ـ مِن النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيَكَ مِن الْمَاءِ الْبَارِدِ؟».

أيُّها الإخوة الكرام: نِعمَةُ الصِّحَّةِ مَعَ التَّقوَى من أعظَمِ النِّعَمِ على العَبدِ، روى الحاكم والإمام أحمد عن مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ رَضِيَ اللهُ عنهُم قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ فَطَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ.

فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَاكَ طَيِّبَ النَّفْسِ.

قَالَ: «أَجَلْ».

قَالَ: ثُمَّ خَاضَ الْقَوْمُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَن اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَن اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِن النَّعِيمِ».

اِغتَنِمْ فُرصَةَ العُمُرِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ المُسَارَعَةَ إلى الخَيرَاتِ صِفَةٌ عَظِيمَةٌ من صِفَاتِ الذينَ هُم من خَشيَةِ رَبِّهِم مُشفِقُونَ، وإنَّ السَّابِقِينَ إلى الخَيرَاتِ في الدُّنيا هُمُ السَّابِقُونَ إلى رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ يَومَ القِيَامَةِ، قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾. فَلنَغتَنِمْ فُرصَةَ الصِّحَّةِ في المُسَابَقَةِ إلى الخَيرَاتِ، حتَّى إذا مَرِضَ أَحَدُنَا ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ أو عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ، أو دَخَلَ سِنَّ الشَّيخُوخَةِ والهَرَمِ كَتَبَ اللهُ تعالى لَهُ عَمَلَهُ الذي كَانَ يَعمَلُهُ أَيَّامَ الصِّحَّةِ.

روى الإمام البخاري عن أَبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيماً صَحِيحاً».

وروى الحاكم والإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ مِن الْمُسْلِمِينَ يُصَابُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ إِلَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الْحَفَظَةَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ أنِ اكْتُبُوا لِعَبْدِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ مِن الْخَيْرِ مَا دَامَ مَحْبُوساً فِي وَثَاقِي ـ أي: في قَيْدِي ـ».

أيُّها الإخوة الكرام: من لم يَستَغِلَّ أَيَّامَ الصِّحَّةِ فَسَيَفُوتُهُ خَيرٌ كَثِيرٌ، وسَوفَ يَندَمُ في حِينِ لا يَنفَعُهُ النَّدَمُ.

ومن هذا المُنطَلَقِ رَغَّبَ سَيِّدُنا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ باغتِنَامِ الفُرَصِ، خَشيَةَ المُفَاجَآتِ غَيرِ المُتَوَقَّعَةِ، روى الإمام أحمد وابن ماجه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ رَضِيَ اللهُ عنهُم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: التَّقصِيرُ أَيَّامَ الصِّحَّةِ خَسَارَةٌ حَاضِرَةٌ، وخَسَارَةٌ لاحِقَةٌ، من لم يَغتَنِمْ فُرصَةَ الصِّحَّةِ ضَيَّعَهَا بِدُونِ فَائِدَةٍ، وسَيُسأَلُ عَنهَا، وضَيَّعَ أَجرَهَا عِندَ مَرَضِهِ أو شَيخُوخَتِهِ وَهَرَمِهِ.

روى رزين عن شَقِيقٍ قالَ: مَرِضَ عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ فَعُدْنَاهُ، فَجَعَلَ يَبكِي، فَعُوتِبَ فَقَالَ: إِنِّي لا أَبكِي لأَجلِ المَرَضِ، لأنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «المَرَضُ كَفَّارَةٌ».

وإِنَّما أَبكِي أَنَّهُ أَصَابَنِي على حَالِ فَترَةٍ، ولم يُصِبْنِي في حَالِ اجتِهَادٍ، لأنَّهُ يُكتَبُ للعَبدِ من الأجْرِ إذا مَرِضَ ما كَانَ يُكتَبُ لَهُ قَبلَ أن يَمرَضَ فَمَنَعَهُ مِنهُ المَرَضُ.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَحمَدِ اللهَ تعالى على نِعمَةِ الصِّحَّةِ ولا نَغتَرَّ بِهَا، فهيَ نِعمَةٌ إذا شَكَرتَ اللهَ تعالى عَلَيهَا، وإلا فهيَ نِقمَةٌ عَلَيكَ ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ لِنَغتَنِمْ فَترَةَ الصِّحَّةِ فَرُبَّما أن يَأتِيَ المَوتُ لأَحَدِنَا وهوَ في رَيعَانِ الشَّبَابِ، ورَحِمَ اللهُ تعالى من قالَ:

فَكَم من صَـحِيحٍ مَـاتَ من غَيرِ عِلَّةٍ   ***   وَكَم من سَقِيمٍ عَاشَ حِينَاً من الدَّهرِ

وَكَم من فَتَىً أَمسَى وأَصبَحَ ضَاحِكَاً   ***  وقـد نُـسِجَـتْ أَكـفَانَهُ وهوَ لا يَدرِي

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لما يُرضِيكَ عَنَّا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 8/ رمضان/1435هـ، الموافق: 6/تموز / 2014م