10ـ دروس رمضانية 1435هـ: (هل نحسن للوقت أم نسيء؟)

 

 10ـ دروس رمضانية 1435هـ: (هل نحسن للوقت أم نسيء؟)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: حِفْظُ الوَقتِ الذي هوَ عُمُرُ الإنسَانِ أَصْلُ كُلِّ خَيرٍ، وضَيَاعُهُ مَنشَأُ كُلِّ شَرٍّ، وإذا عَرَفَ الإنسَانُ قِيمَةَ الوَقتِ حَرَصَ عَلَيهِ، وعَزَّ عَلَيهِ ضَيَاعُهُ، لأنَّ الوَقتَ سَبَبٌ لِنَعِيمٍ دَائِمٍ يَبدَأُ في الحَيَاةِ الدُّنيا، ويَستَمِرُّ إلى الآخِرَةِ البَاقِيَةِ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾. أو سَبَبٌ لِشَقَاءٍ دَائِمٍ يَبدَأُ في الحَيَاةِ الدُّنيا، ويَستَمِرُّ إلى الآخِرَةِ البَاقِيَةِ.

وَرَبُّنَا عزَّ وجلَّ عَظَّمَ الوَقتَ، ودَلِيلُ تَعظِيمِهِ للوَقتِ أنَّهُ أقسَمَ بِهِ، من جُملَةِ هذهِ الأقسَامِ قَولُهُ تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾. وقال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾. وقال تعالى: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾. وقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾. وَرَبُّنَا عزَّ وجلَّ لا يُقسِمُ إلا بِعَظِيمٍ، فَعِندَمَا أقسَمَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ بالوَقتِ عَرَّفنَا أنَّهُ عَظِيمٌ، وَلَفَتَ أنظَارَ عِبَادِهِ إلَيهِ.

مَسؤُولِيَّةُ العَبدِ عن الوَقتِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لو دَقَّقْنَا على أنفُسِنَا لَوَجَدْنَا أنفُسَنَا مُضَيِّعِينَ أوقَاتَنَا، ومَحرُومِينَ من استِغلالِهَا، ونَهدُرُهَا بِدُونِ فَائِدَةٍ، والأعجَبُ من ذلكَ أنَّنَا نَفرَحُ بِمُرُورِ الأَيَّامِ والأَشهُرِ والسَّنَوَاتِ، ونَنسَى بأنَّ كُلَّ لَحظَةٍ تَمُرُّ عَلَينَا تُقَرِّبُنَا من المَوتِ والآخِرَةِ، وأنَّا سَوفَ نُسأَلُ عَن هذا الوَقتِ يَومَ القِيَامَةِ، روى الترمذي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ».

أيُّها الإخوة الكرام: الوَقتُ نِعمَةٌ تَستَوجِبُ الشُّكرَ للهِ عزَّ وجلَّ عَلَيهِ، وذلكَ باستِغلالِهِ في الطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ والبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وإلا كَانَ العَبدُ مَغبُوناً، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».

كُلُّ وَقتٍ لَهُ عِبَادَةٌ:

أيُّها الإخوة الكرام: كُلُّ لَحظَةٍ وَوَقتٍ يَمُرُّ على الإنسَانِ لَهُ عِبَادَةٌ خَاصَّةٌ فِيهِ، فلا يُمكِنُ أن نَجِدَ وَقتاً لا عِبَادَةَ فِيهِ.

وقَالُوا: أوقَاتُ العَبدِ أربَعَةٌ، إمَّا أن يَكُونَ في وَقتِ نِعمَةٍ، وإمَّا أن يَكُونَ في وَقتِ نِقمَةٍ ومُصِيبَةٍ، وإمَّا أن يَكُونَ في وَقتِ طَاعَةٍ، وإمَّا أن يَكُونَ في وَقتِ مَعصِيَةٍ.

ولِكُلِّ وَقتٍ من هذهِ الأوقَاتِ الأربَعَةِ التي لا خَامِسَ لَهَا حَقٌّ للهِ عزَّ وجلَّ عَلَيكَ، فإن كُنتَ في وَقتِ النِّعَمِ، فَحَقُّ اللهِ عَلَيكَ الشُّكْرُ، فإنْ كُنتَ شَاكِراً كُنتَ فَائِزاً، وإنْ كُنتَ في وَقتِ النِقَمَةِ والمُصِيبَةِ، فَحَقُّ اللهِ عَلَيكَ الصَّبْرُ، فإنْ كُنتَ صَابِراً كُنتَ فَائِزاً، وإنْ كُنتَ في وَقتِ الطَّاعَةِ فَحَقُّ اللهِ عَلَيكَ شُهُودُ فَضْلِهِ عَلَيكَ، وطَلَبُ الثَّبَاتِ على ذلكَ حتَّى تَلقَاهُ، وإنْ كُنتَ في وَقتِ المَعصِيَةِ، فَحَقُّ اللهِ عَلَيكَ التَّوبَةُ والاستِغفَارُ.

والسَّعِيدُ حَقَّاً من كَانَ يَتَقَلَّبُ بَينَ الشُّكْرِ والصَّبْرِ، وطَلَبِ الثَّبَاتِ على الطَّاعَةِ، والتَّوبَةِ والاستِغفَارِ.

هل نُحسِنُ للوَقتِ، أم نُسِيءُ؟

أيُّها الإخوة الكرام: الوَقتُ نِعمَةٌ من نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَينَا، فهل نُحسِنُ للوَقتِ، أم نُسِيءُ؟ هل نَملَأُ الوَقتَ بالطَّاعَةِ أم بالَعصِيَةِ؟ هل نَشغَلُ الوَقتَ بما يُرضِي اللهَ تعالى أم بما يُسخِطُهُ؟

يَقُولُ الحَسَنُ البَصرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ، نَهَارُكَ ضَيفُكَ فَأَحسِنْ إلَيهِ، فَإِنَّكَ إنْ أَحسَنتَ إِلَيهِ ارتَحَلَ بِحَمدِكَ، وإنْ أَسَأتَ إِلَيهِ ارتَحَلَ بِذَمِّكَ، وكَذلكَ لَيلَتُكَ.

ويَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الدُّنيا ثَلاثَةُ أَيَّامٍ: أَمَّا الأمسُ فقد ذَهَبَ بما فِيهِ، وأَمَّا غَدَاً فَلَعَلَّكَ لا تُدرِكُهُ، وأَمَّا اليَومَ فَلَكَ فَاعْمَلْ فِيهِ.

ويَقُولُ ابنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ما نَدِمتُ على شَيءٍ نَدَمِي على يَومٍ غَرَبَت شَمسُهُ، نَقُصَ فِيهِ أَجَلِي، ولم يَزدَدْ فِيهِ عَمَلِي.

أيُّها الإخوة الكرام: إضَاعَةُ الوَقتِ أشَدُّ من المَوتِ، لأنَّ إضَاعَةَ الوَقتِ تَقطَعُكَ عن اللهِ تعالى، وعن الدَّارِ الآخِرَةِ، وتَجعَلُكَ في حَرَجٍ شَدِيدٍ يَومَ القِيَامَةِ، أمَّا المَوتُ فَيَقطَعُكَ عن الدُّنيا وأهلِهَا، ويَنقُلُكَ من دَارِ الفَنَاءِ إلى دَارِ البَقَاءِ.

اِستَغِلَّ أوقَاتَ الفَرَاغِ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ عَاقِلٍ أن يَستَغِلَّ أوقَاتَ الفَرَاغِ، حتَّى لا تَمُرَّ عَلَيهِ لَحظَةٌ بِدُونِ فَائِدَةٍ، ومَجَالاتُ استِغلالِ وَقتِ الفَرَاغِ كَثِيرَةٌ، منها:

أولاً: تَعَلُّمُ القُرآنِ الكَرِيمِ وتَعلِيمُهُ، لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيرُكُم مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

ثانياً: حُضُورُ مَجَالِسِ العِلمِ والذِّكْرِ، فَإنَّها رَوضَةٌ من رِيَاضِ الجَنَّةِ، لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا».

قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟

قَالَ: «حِلَقُ الذِّكْرِ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

ثالثاً: الإكثَارُ من ذِكْرِ اللهِ تعالى، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الحاكم والترمذي وابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ.

قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللهِ».

رابعاً: الإكثَارُ من الصَّلاةِ والسَّلامِ على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الترمذي عَن الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللهَ، اذْكُرُوا اللهَ، جَاءَت الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ».

قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟

فَقَالَ: «مَا شِئْتَ».

قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ؟

قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».

قَالَ: قُلْتُ: النِّصْفَ؟

قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».

قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ؟

قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».

قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا.

قَالَ: «إِذاً تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ».

خامساً: صِلَةُ الأرحَامِ، وذلكَ لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» رواه الشيخان عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَكُنْ على حَذَرٍ من ضَيَاعِ الوَقتِ بِدُونِ فَائِدَةٍ، ولنَكُنْ على حَذَرٍ من الغَفلَةِ عن الزَّمَنِ، لأنَّهُ من ضَيَّعَ وَقتَهُ وكَانَ من الغَافِلِينَ كَانَ حَطَبَ جَهَنَّمَ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

اللَّهُمَّ لا تَجعَلنَا من الغَافِلِينَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 10/ رمضان/1435هـ، الموافق: 8/تموز / 2014م