23ـ دروس رمضانية 1435هـ: (واجبات الداعي إلى الله تعالى) « 3 »

 

 23ـ دروس رمضانية 1435هـ: (واجبات الداعي إلى الله تعالى) « 3 »

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: لقد بَيَّنَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَضْلَ الدَّعوَةِ إلى اللهِ تعالى، وفَضْلَ هِدَايَةِ الخَلْقِ إلى الحَقِّ، وذلكَ بِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «فواللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» رواه الشيخان عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. حُمْرُ النَّعَمِ: هيَ الْإِبِلُ الْحُمْرُ، وَهِيَ أَنْفَسُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ وأكرَمُهَا مَنزِلَةً.

وقد حَمَّلَ اللهُ تعالى الأُمَّةَ جَمِيعَهَا وَاجِبَ الدَّعوَةِ إلى الخَيرِ، فقالَ تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ رَاعٍ ودَاعٍ إلى اللهِ تعالى أن يَقُومَ بِوَاجِبِ الدَّعوَةِ في حُدُودِ مَجَالاتِ عَمَلِهِ، بِدءَاً من أُسرَتِهِ، فَأَصحَابِهِ، فَأَهلِ حَيِّهِ، فَأَهلِ بَلَدِهِ، فمن يَتَيَسَّرُ لَهُ أن يَدعُوَهُ إلى هذا الدِّينِ الحَنِيفِ.

أيُّها الإخوة الكرام: عِندَمَا كَانَ وَاجِبُ الدَّعوَةِ إلى اللهِ تعالى مُلقَى على عَاتِقِ كُلِّ رَاعٍ فِينَا، كَانَ لِزَاماً عَلَينَا أن نَتَعَلَّمَ بَعضَ وَاجِبَاتِ الدَّاعِي إلى اللهِ تعالى، من هذهِ الوَاجِباتِ:

سابعاً: تَخَيُّرُ الأَوقَاتِ المُنَاسِبَةِ في الدَّعوَةِ إلى اللهِ تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ وَاحِدٍ فِينَا عِندَمَا يَقُومُ بِوَاجِبِ الدَّعوَةِ إلى اللهِ تعالى على أَيِّ مُستَوَىً كَانَ، أن يَتَخَيَّرَ الأَوقَاتَ المُنَاسِبَةَ في الدَّعوَةِ إلى اللهِ تعالى.

وقد أَوجَزَ ذلكَ سَيِّدُنَا ابنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِقَولِهِ: إِنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإِقْبَالاً، وَإِنَّ لَهَا فَتْرَةً وَإِدْبَاراً، فَخُذُوهَا عِنْدَ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا، وَذَرُوهَا عِنْدَ فَتْرَتِهَا وَإِدْبَارِهَا.

وروى الإمام البخاري عَنْ أَبِي وَائِلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ ابنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ.

قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ـ أي: أُضْجِرُكُمْ ـ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا ـ يَتَعَاهَدنَا ويُصْلِحنَا ـ بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ ـ الْمَلَلِ ـ عَلَيْنَا.

أيُّها الإخوة الكرام: لِتَكُنْ عِندَنَا الحِكمَةُ في اختِيَارِ الوَقتِ الذي نُبَلِّغُ فِيهِ، لنتَعَلَّمْ هذهِ الحِكمَةَ من سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيهِ السَّلامُ، حَيثُ استَغَلَّ فُرصَةَ الفَتَيَينِ عِندَمَا سَأَلاهُ بِقَولِهِمَا: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. لقد رَأَى مِنهُمَا عَلَيهِ السَّلامُ أَنَّهُمَا مُعجَبَينِ بِهِ، وأَنَّهُمَا وَاثِقَينِ بِهِ، فاستَغَلَّ هذهِ المُنَاسَبَةَ، فَقَالَ: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾؟ دَعَاهُم إلى التَّوحِيدِ الذي هوَ رَكِيزَةُ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ، وعَلَيهِ يُتَوَقَّفُ قَبُولُ العَمَلِ.

تَعَلَّمْ هذا يا أَيُّهَا الدَّاعِي إلى اللهِ تعالى، وكُلُّنَا دُعَاةٌ إلى اللهِ تعالى.

ثامناً: حُسنُ التَّعَامُلِ مَعَ المَدعُوِّينَ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ وَاحِدٍ فِينَا عِندَمَا يَقُومُ بِوَاجِبِ الدَّعوَةِ إلى اللهِ تعالى، أن يَتَعَامَلَ مَعَهُم بِكَامِلِ الآدَابِ الشَّرعِيَّةِ والأخلاقِ المَرضِيَّةِ، لأنَّ النُّفُوسَ مَجبُولَةٌ على حُبِّ من يُحسِنُ إلَيهَا، وتَنفِرُ من الشِّدَّةِ والغِلظَةِ، بل تَدفَعُهَا إلى الإصرَارِ والمُكَابَرَةِ، وتَأخُذُهَا العِزَّةُ بالإثمِ، ولنَستَمِعْ إلى هذهِ الأحادِيثِ الشَّرِيفَةِ:

أولاً: فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ:

روى الإمام مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ.

فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟

فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي، سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّماً قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيماً مِنْهُ، فواللهِ مَا كَهَرَنِي ـ أَيْ: مَا انْتَهَرَنِي ـ وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي.

قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ».

ثانياً: «لَا تُزْرِمُوهُ»:

روى الإِمَام مُسلِم عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ.

فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ!.

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ «لَا تُزْرِمُوهُ ـ لا تَقطَعُوا عليهِ بَولَهُ ـ دَعُوهُ».

فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ».  أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.

وفي روايةٍ للإمام أحمد ولأبي دَاوُد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَصَلَّى، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّداً، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَداً.

فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعاً».

فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم: «أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ـ أَوْ دَلْواً مِنْ مَاءٍ ـ ».

ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».

ثالثاً: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ»:

روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: إِنَّ فَتىً شَابَّاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا؛ فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ؛ قَالُوا: مَهْ مَهْ.

فَقَالَ: «ادْنُهْ» فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً، فَجَلَسَ.

قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟».

قَالَ: لَا واللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ».

قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟».

قَالَ: لَا واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ».

قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟».

قَالَ: لَا واللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ».

قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟».

قَالَ: لَا واللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ».

قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟».

قَالَ: لَا واللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ».

قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ». فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.

تَعَلَّمْ هذا يا أَيُّهَا الدَّاعِي إلى اللهِ تعالى، وكُلُّنَا دُعَاةٌ إلى اللهِ تعالى.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ عَلَينَا قَبلَ الدَّعوَةِ إلى اللهِ تعالى أن نَكسِبَ قُلُوبَ المَدعُوِّينَ، لا من أَجلِ عَرَضٍ من أعرَاضِ الدُّنيا، ولا من أَجلِ أَنفُسِنَا، بل للهِ عزَّ وجلَّ، ولَعَلَّ أن نَنَالَ شَرَفَ القُربِ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَومَ القِيَامَةِ بِسَبَبِ حُسنِ الخُلُقِ مَعَ النَّاسِ.

أَسأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُكرِمَنَا بذلكَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 23/ رمضان/1435هـ، الموافق: 21/تموز / 2014م