117ـ مع الحبيب المصطفى: «الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ»

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

117ـ  «الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَتَبَ اللهُ عزَّ وجلَّ الذي تَفَرَّدَ بالبَقَاءِ والدَّوامِ المَوتَ على جَميعِ المَخلوقاتِ والمَوجوداتِ، فقال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾.

فالمَوتُ يَطلُبُ الجَميعَ، والقَبرُ يَنتَظِرُ الجَميعَ، والعَجيبُ أن تَرَى العَبدَ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا يَلَذُّ لهُ القَرارُ فيها، وهوَ يَعلَمُ أنَّهُ مَيِّتٌ، ويَتَّخِذُ الدُّنيا أفضَلَ دارٍ لهُ والقَبرُ يَنتَظِرُهُ، ألهاهُ ﴿حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ عن التَّفكيرِ في المَصيرِ إلى القَبرِ الذي هوَ سَائِرٌ إلَيهِ شاءَ أو أبَى.

أوَّلُ لَيلَةٍ في القَبرِ أخَافَتِ العَارِفينَ بالله تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ أوَّلَ لَيلَةٍ في القَبرِ أخافَتِ العَارِفينَ بالله تعالى، أخَافَتِ الزَّاهِدينَ في الحَياةِ الدُّنيا، بَكَى مها الخُلَفاءُ الرَّاشِدونَ، وشَكَى منها العُلَماءُ العَارِفونَ بالله تعالى، وخَافَ منها العُقَلاءُ.

بُكاءُ سَيِّدِنا عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ:

روى الإمام أحمد وابن ماجه عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ.

فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟

قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ».

قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَراً قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ».

بُكاءُ سَيِّدِنا عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ:

يَقولُ مَيمونُ بنُ مَهرانَ: خَرَجتُ مَعَ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ إلى المَقبَرَةِ، فَلَمَّا نَظَرَ إلى القُبورِ بَكَى، ثمَّ أقبَلَ عَلَيَّ فقالَ: يا مَيمونُ، هذهِ قُبورُ آبائي بَنِي أُمَيَّةَ، كَأَنَّهُم لم يشُارِكُوا أهلَ الدُّنيا في لَذَّاتِهِم وعَيشِهِم، أمَا تَرَاهُم صَرعَى قد حَلَّت بِهِمُ المَثُلاتُ، واستَحكَمَ فِيهِمُ البَلاءُ، وأصابَ الهوامُ مُقيلاً في أبدانِهِم.

ثمَّ بَكَى وقال: والله ما أَعلَمُ أحَداً أنعَمَ مِمَّن صَارَ إلى هذهِ القُبورِ، وقد أَمِنَ من عَذابِ الله تعالى.

اِستَعيذوا بالله من عَذابِ القَبرِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لِيُفَكِّرْ كُلُّ وَاحِدٍ منَّا في أوَّلِ لَيلَةٍ يُوضَعُ فيها في قَبرِهِ، ماذا سَيَكونُ؟ أنا على يَقينٍ بأنَّ جَميعَ الخَلائِقِ لا يَعلَمونَ ماذا سَيَكونُ في أوَّلِ لَيلَةٍ يُودَعونَ فيها في قُبورِهِم، لأنَّ هذا من عَالَمِ الغَيبِ، إلا ما أطلَعَنا اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَيهِ من خِلالِ الخَبَرِ الصَّادِقِ الذي جاءَ في القُرآنِ العَظيمِ، أو من خِلالِ الصَّادِقِ المَصدوقِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الإمام أحمد وغَيرُهُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِن الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، وَكَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ.

فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «اسْتَعِيذُوا بالله مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً.

ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِن الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِن السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن الله وَرِضْوَانٍ، فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِن فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِن الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟

فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.

فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى.

فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟

فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ.

فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟

فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ.

فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟

فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟

فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ الله فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ.

فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِن الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِن الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ.

فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ.

فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟

فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ.

فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.

قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِن الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِن الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِن السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُم الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِن الله وَغَضَبٍ، فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِن الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِن الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟

فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ.

ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾.

فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحاً.

ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِن السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾.

فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟

فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي.

فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟

فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي.

فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟

فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي.

فَيُنَادِي مُنَادٍ مِن السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا لَهُ مِن النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُول:ُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ.

فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟

فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ.

فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ».

المَوتُ نِهَايَةُ كُلِّ إنسانٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: المَوتُ نِهَايَةُ كُلِّ إنسانٍ، وبه يُنقَلُ العَبدُ من دارِ الدُّنيا إلى أوَّلِ مَنزِلٍ من مَنَازِلِ الآخِرَةِ، يُنقَلُ إلى عَالَمِ البَرزَخِ إلى عَالَمِ القَبرِ؛ ورَحِمَ اللهُ تعالى من قال:

الْمَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ   ***   فَلَيْتَ شَعْرِي بَعْدَ الْبَابِ مَا الدَّارُ

ورَحِمَ اللهُ تعالى من أجابَهُ:

الدَّارُ جَنَّةُ خُلدٍ إن عَمِلتَ بما   ***   يُرضِي الإلهَ وإن قَصَّرتَ فالنَّارُ

هُـمَا مَحَلَّانِ ما للنَّاسِ غَيرُهُمَا   ***   فَـانـظُرْ لِنَفسِكَ أيَّ الدَّارِ تَختَارُ

بُكاءُ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُ:

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَستَعِدَّ لهذا المَصرَعِ العَظيمِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ، وأن نَحفَظَ أنفاسَ أعمارِنا التي تَمُرُّ مَرَّ الرِّيحِ، أو كالبَرقِ الخَاطِفِ، فلا يَمُرُّ بنا نَفَسٌ إلا ونَحنُ في طَاعَةٍ لله عزَّ وجلَّ، وأن نَستَغِلَّها فيما يُقَرِّبُنا إلى الله عزَّ وجلَّ.

روى الإمام مسلم عَن ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟

قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله؛ إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضاً لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَد اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، فَقَبَضْتُ يَدِي.

قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟»

قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.

قَالَ: «تَشْتَرِطُ مَاذَا؟».

قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.

قَالَ :«أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ»

وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنَّاً، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي؟

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: لا يَغتَرَّ أحَدُنا بِشَبابِهِ، فإنَّ اللهَ إذا أخَذَ، فإنَّهُ يَأخُذُ أخذَ عَزيزَ مُقتَدِرٍ، فلا تَغُرَّنَكُمُ الحَياةُ الدُّنيا، ولا يَغُرَّنَكُم بالله الغَرورُ، فأعِدُّوا لأوَّلِ لَيلَةٍ في قُبورِكُم من العَمَلِ الصَّالِحِ لَعَلَّ اللهَ تعالى أن يَجعَلَ قُبورَنا رَوضَةً من رِياضِ الجَنَّةِ.

اللَّهُمَّ أكرِمْنا بذلكَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 9/جمادى الأولى/1435هـ، الموافق: 10/آذار/ 2014م