407ـ خطبة الجمعة: امتحان الدنيا وامتحان الآخرة (2)

 

 

407ـ خطبة الجمعة: امتحان الدنيا وامتحان الآخرة (2)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، شَاءَ العَبدُ أم أَبَى سَيَخرُجُ من الدُّنيَا، طَالَ عُمُرُهُ أم قَصُرَ، أَطَاعَ اللهَ تعالى أم عَصَى، حَكَمَ أم حُكِمَ، ظَلَمَ أم ظُلِمَ، تَقَلَّبَ في نِعَمٍ أم في نِقَمٍ، سَيَخرُجُ من الدُّنيَا، يَعِيشُ سَنَوَاتٍ مُقَدَّرَةً بِتَقدِيرِ العَزِيزِ العَلِيمِ، ثمَّ يُقْبَرُ، ثمَّ يُنْشَرُ، ثمَّ يُحْشَرُ، ثمَّ يَقِفُ بَينَ يَدَيِ خَالِقِهِ جَلَّ وعَلا الذي قَالَ: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾؟

يَا عِبَادَ اللهِ، العَاقِلُ هوَ من استَعَدَّ لِلِقَاءِ اللهِ تعالى، وذلكَ بالمُبَادَرَةِ إلى الأَعمَالِ الصَّالِحَاتِ، العَاقِلُ من استَعَدَّ للحِسَابِ وللامتِحَانِ يَومَ القِيَامَةِ، العَاقِلُ من بَحَثَ عن صَدِيقٍ مُجِدٍّ ومُجتَهِدٍ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا من أَجلِ الامتِحَانِ يَومَ القِيَامَةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، نَحنُ نَرَى العُقَلاءَ في الحَيَاةِ الدُّنيَا الذينَ يُرِيدُونَ مُستَقْبَلاً زَاهِرَاً في حَيَاتِهِمُ الدُّنيَا يَجِدُّونَ ويَجتَهِدُونَ في تَحقِيقِ الأَسبَابِ التي تُوصِلُهُم إلى هَدَفِهِم، فلا يَلهَونَ إذا لَهَى غَيرُهُم، ولا يَسهَونَ إذا سَهَى غَيرُهُم، ولا يُضَيِّعُونَ أَوقَاتَهُم إذا ضَيَّعَهَا غَيرُهُم، تَرَاهُم في جِدٍّ واجتِهَادٍ طَمَعَاً بِمَنزِلَةٍ دُنيَوِيَّةٍ، تَرَاهُم في جِدٍّ واجتِهَادٍ استِعدَادَاً للامتِحَانِ.

الفَارِقُ بَينَ امتِحَانِ الدُّنيَا وامتِحَانِ الآخِرَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الفَارِقُ كَبِيرٌ بَينَ امتِحَانِ الدُّنيَا وامتِحَانِ الآخِرَةِ، اِمتِحَانُ الدُّنيَا لو قُورِنَ بامتِحَانِ الآخِرَةِ لما كَانَ يُسَاوِي شَيئَاً.

أولاً: الرَّقِيبُ في الامتِحَانِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، رَقِيبُ الامتِحَانِ في الدُّنيَا بَشَرٌ، قُدْرَتُهُ مَحْدُودَةٌ، لا يَستَطِيعُ أن يُحِيطَ بالمُمتَحَنِينَ، قَد يُحتَالُ عَلَيهِ، وقَد يَسهُو، وقَد يَنشَغِلُ، وقَد يَتَنَازَلُ عن مَهَمَّتِهِ بِعَرَضٍ من الدُّنيَا.

أمَّا الرَّقِيبُ في امتِحَانِ الآخِرَةِ فهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ، الذي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمَاً، الذي لا تَخفَى عَلَيهِ خَافِيَةٌ، الذي يَعلَمُ السِّرَّ وأَخفَى، الذي لا يَعزُبُ عَنهُ مِثقَالُ ذَرَّةٍ في الأَرضِ ولا في السَّمَاءِ، الذي يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعيُنِ ومَا تُخفِي الصُّدُورُ، القَائِلُ: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً﴾.

ثانياً: مُدَّةُ الامتِحَانِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، مُدَّةُ الامتِحَانِ في الدُّنيَا سَاعَةٌ أو سَاعَتَانِ أو ثَلاثَةٌ مَعَ رَاحَةِ الجَسَدِ، ويَنتَهِي كُلُّ شَيءٍ.

أمَّا مُدَّةُ الامتِحَانِ في الآخِرَةِ فَخَمسُونَ أَلفَ سَنَةٍ، قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾.

خَمسُونَ أَلفَ سَنَةٍ، وأَنتَ وَاقِفٌ على قَدَمَيكَ أَمَامَ رَبِّ البَشَرِ، تُعرَضُ على رَبِّكَ لا تَخفَى مِنكَ خَافِيَةٌ، قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾.

هَيِّئِ الجَوَابَ في هذا الامتِحَانِ الرَّهِيبِ، فَمَا أَنتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ يَا سَافِكَ الدِّمَاءِ، ويَا قَاتِلَ الأَبرِيَاءِ، ويَا مُرَوِّعَ الآمِنِينَ، ويَا سَالِبَ الأَموَالِ، ويَا مُفَرِّقَاً بَينَ الأَحِبَّةِ؟

ثالثاً: اِمتِحَانُ الدُّنيَا قَد يُعَادُ:

يَا عِبَادَ اللهِ، إذا أَخفَقَ العَبدُ في امتِحَانِ الدُّنيَا فَإِنَّهُ يُعِيدُهُ مَرَّةً أو مَرَّتَينِ أو أَكثَرَ، وإذا لم يُفْلِحْ تَحَوَّلَ إلى مَيدَانٍ آخَرَ لِتَأمِينِ أَسبَابِ سَعَادَتِهِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا.

أمَّا امتِحَانُ الآخِرَةِ فلا إِعَادَةَ لَهُ إذا أَخفَقَ العَبدُ فِيهِ وخَسِرَ، لأنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى قَطَعَ على نَفْسِهِ عَهْدَاً أن لا يُرجِعَ أَحَدَاً إلى الدُّنيَا بَعدَ خُرُوجِهِ مِنهَا، ولذلكَ قَالُوا: السَّفَرُ في الدُّنيَا كَثِيرٌ، ولكنَّ السَّفَرَ من الدُّنيَا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ لا ثَانِيَ لَهَا؛ فإذا صَدَرَتِ النَّتِيجَةُ في امتِحَانِ الآخِرَةِ فلا إِعَادَةَ ولا استِدْرَاكَ، النَّتِيجَةُ وَاحِدَةٌ لا ثَانِيَ لَهَا ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾.

رابعاً: نَتَائِجُ الامتِحَانِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، نَتَائِجُ الامتِحَانِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا نِسبَتُهَا عَالِيَةٌ جِدَّاً في الغَالِبِ الأَعَمِّ، لأنَّهَا امتِحَانَاتٌ سَهْلَةٌ، ويَسِيرَةٌ جِدَّاً، فقد تَصِلُ نِسْبَةُ النَّجَاحِ إلى تِسعِينَ في المِئَةِ وأَكثَرَ.

أمَّا نِسْبَةُ نَتَائِجِ الامتِحَانِ في الآخِرَةِ فَشَيءٌ مُذْهِلٌ ومُرْعِبٌ ومُخِيفٌ، نِسْبَةُ النَّجَاحِ في الآخِرَةِ لَن تَكُونَ وَاحِدَةً في العَشَرَةِ، ولا وَاحِدَةً في المِئَةِ، بل هيَ وَاحِدَةٌ في الأَلفِ.

روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ.

فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ.

يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ.

قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟

قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ.

فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لا تَغتَرُّوا بِكَثْرَةَ الهَلْكَى، ولا تَغتَرُّوا بِكَثْرَةَ المُنحَرِفِينَ، ولا تَغتَرُّوا بِكَثْرَةَ المُجرِمِينَ، ولا تَغتَرُّوا بِكَثْرَةَ المُفسِدِينَ، ولا تَغتَرُّوا بِكَثْرَةَ المُعرِضِينَ عن اللهِ عزَّ وجلَّ، فالنَّتِيجَةُ تَنتَظِرُهُم يَومَ القِيَامَةِ، النَّاجِي يَومَ الامتِحَانِ الأَكبَرِ يَومَ القِيَامَةِ وَاحِدٌ من الأَلفِ، فَهَل صَدَّقتُم قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾؟

يَا أَهلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ، يَا من تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ القَاسِيَةَ، رَاقِبُوا اللهَ عزَّ وجلَّ في أَقوَالِكُم، رَاقِبُوا اللهَ عزَّ وجلَّ في أَفعَالِكُم، رَاقِبُوا اللهَ عزَّ وجلَّ في نِيَّاتِكُم وأَمَانِيكُم، رَاقِبُوا اللهَ عزَّ وجلَّ في خَلْقِ اللهِ تعالى، واتَّقُوهُ في عِبَادِهِ، ولْيَسْلَمِ المُسلِمُونَ من أَلسِنَتِكُم وأَيدِيكُم لَعَلَّكُم تَفُوزُونَ يَومَ القِيَامَةِ، وتَنتدَرِجُونَ تَحتَ قَولِهِ تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا أَهلَ سُورِيَّا، وَدِّعُوا العَامَ بِتَوبَةٍ صَادِقَةٍ للهِ عزَّ وجلَّ من جَمِيعِ الذُّنُوبِ والآثَامِ، واستَقبِلُوا عَامَاً هِجْرِيَّاً جَدِيدَاً بالاصطِلاحِ مَعَ اللهِ تعالى تُسْعَدُوا دُنيَا وأُخرَى إن شَاءَ اللهُ تعالى.

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 30/ذو الحجة /1435هـ، الموافق: 24/تشرين الأول/ 2014م