408ـ خطبة الجمعة: امتحان الدنيا وامتحان الآخرة (3)

 

408ـ خطبة الجمعة: امتحان الدنيا وامتحان الآخرة (3)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ نَجَاحَ العَبدِ في امتحَانِ الدُّنيَا قَد يَنفَعُهُ، وقَد لا يَنفَعُهُ، وإنْ نَفَعَهُ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا، ورَفَعَهُ إلى أَعلَى الدَّرَجَاتِ، فإنَّهُ لا يُسَاوِي شَيئَاً أَمَامَ نَجَاحِهِ في امتِحَانِ الآخِرَةِ، لأنَّ نَعِيمَ الآخِرَةِ نَعِيمٌ دَائِمٌ لا يَنقَطِعُ، وفِيهِ مَا لا عَينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ.

روى الإمام مسلم عن مُسْتَوْرِدٍ أَخِي بَنِي فِهْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «واللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ ـ وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ ـ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ».

وروى الإمام البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِن الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحاً، وَلَنَصِيفُهَا ـ يَعْنِي الْخِمَارَ ـ خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».

﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ نَجَاحَ العَبدِ وفَلاحَهُ وفَوزَهُ يَومَ القِيَامَةِ، فَرحَةٌ عَارِمَةٌ، وسَعَادَةٌ غَامِرَةٌ، وخَاصَّةً في أَشَدِّ مَوَاطِنِ الآخِرَةِ.

روى الحاكم وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها، أَنَّهَا ذَكَرَت النَّارَ فَبَكَتْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكِ؟».

قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً، عِنْدَ الْمِيزَانِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَوْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الْكِتَابِ حِينَ يُقَالُ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾. حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ، أَفِي يَمِينِهِ، أَمْ فِي شِمَالِهِ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ، إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ».

يَا عِبَادَ اللهِ، لِيَتَصَوَّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ في أَرضِ المَحشَرِ، عِندَمَا يُنَادَى عَلَيهِ باسمِهِ للعَرْضِ على اللهِ تعالى الكَبِيرِ المُتَعَالِ، ويُنصَبُ لَهُ المِيزَانُ وهوَ يَتَذَكَّرُ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾.

كَم هيَ فَرْحَةُ العَبدِ يَومَ القِيَامَةِ إذا كَانَ مِيزَانُهُ ثَقِيلاً بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ والأَعمَالِ الصَّالِحَةِ؟ إنَّهَا فَرْحَةٌ لا يَعقِبُهَا حُزْنٌ أَبَدَاً، وأمَّا مَن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ـ والعِيَاذُ باللهِ تعالى ـ فَكَم هيَ حَسْرَتُهُ ونَدَامَتُهُ؟

روى الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها، أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي، وَيَخُونُونَنِي، وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟

قَالَ: «يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ، وَعَصَوْكَ، وَكَذَّبُوكَ، وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ كَفَافاً، لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلاً لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ».

قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾؟»

فَقَالَ الرَّجُلُ: واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلَاءِ شَيْئاً خَيْراً مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ.

يَا أَيُّهَا الظَّالِمُ للعِبَادِ، مَا أنتَ قَائلٌ لِرَبِّكَ يَومَ القِيَامَةِ، ومَا هوَ مَوقِفُكَ أَمَامَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾؟

هَنِيئَاً لَكَ ظُلمُكَ، وهَنِيئَاً لَكَ سَفْكُكَ للدِّمَاءِ، وسَلْبُكَ للأَموَالِ، وتَروِيعُكَ للآمِنِينَ.

﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، يَومُ القِيَامَةِ يَومُ الكُرُبَاتِ، يَومُ الحَسَرَاتِ، ومن أَعظَمِ الكُرَبِ والحَسَرَاتِ عِندَمَا يُوضَعُ المِيزَانُ، والذي يَضَعُ المِيزَانَ هوَ اللهُ تعالى، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، هُنَاكَ مِيزَانٌ دَقِيقٌ يُوضَعُ، فمن هوَ الحَاكِمُ عَلَيهِ، والوَاقِفُ عَلَيهِ؟ هل المَلائِكَةُ الكِرَامُ؟ أم الرُّسُلُ العِظَامُ؟ أم مُلُوكُ الدُّنيَا؟ أم قُضَاةُ العَالَمِ؟

إنَّ الذي يَقِفُ على المِيزَانِ هوَ القَائِلُ: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. القَائِلُ: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾. لا ظُلْمَ اليَومَ، ولا هَضْمَ لِحَقِّ أَحَدٍ، عِندَهَا يَقِفُ الإنسَانُ مَبهُوتَاً أَمَامَ هذا المِيزَانِ، وهوَ خَائِفٌ وَجِلٌ، هل تَرجَحُ الحَسَنَاتُ على السَّيِّئَاتِ، أم السَّيِّئَاتُ على الحَسَنَاتِ؟

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا أهلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ، يَا من آمَنتُم بأنَّ المِيزَانَ يَومَ القِيَامَةِ حَقٌّ، ويَا من أَيقَنتُم بأنَّ من ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فهوَ في عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وبأنَّ من خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، عُودُوا إلى مِيزَانِ الشَّرْعِ في أَزمَتِكُم هذهِ، واجعَلُوهُ فَوقَ كُلِّ المَوَازِينِ، لا تُبَالُوا ولا تَلتَفِتُوا إلى أَهوَاءِ البَشَرِ وعَوَاطِفِهِم، ولا تَنسَاقُوا خَلفَ كُلِّ نَاعِقٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ، البَلَدُ بَلَدُنَا، والأَهلُ أَهلُنَا، والمَالُ مَالُنَا، والقِيَامَةُ تَنتَظِرُنَا، والكُلُّ سَيَقِفُ أَمَامَ اللهِ تعالى، وكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا سَيُنصَبُ لَهُ المِيزَانُ، واللهُ تعالى هوَ الذي يَتَوَلَّى حِسَابَنَا بَعدَ وَضْعِ الكِتَابِ أَمَامَ أَبصَارِنَا ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾.

لِيَسأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ  هذا السُّؤَالَ: إذا وُضِعَ الكِتَابُ يَومَ القِيَامَةِ أَمَامَ الذي يَعلَمُ السِّرَّ وأَخفَى، هل أَنَا مُشفِقٌ مِمَّا فِيهِ؟ أم فَرِحٌ بِمَا فِيهِ؟

يَا عَبدَ اللهِ، اِقرَأْ كِتَابَكَ اليَومَ في حَيَاتِكَ الدُّنيَا، وصَحِّحِ الخَطَأَ، وصَحِّحْ مَا أَفسَدتَ، قَبلَ أن تَقرَأَهُ يَومَ القِيَامَةِ وتَندَمَ ولا يَنفَعَكَ النَّدَمُ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 7/محرم /1436هـ، الموافق: 31/تشرين الأول/ 2014م