411ـ خطبة الجمعة: شتان ما بين هؤلاء وهؤلاء

 

 411ـ خطبة الجمعة: شتان ما بين هؤلاء وهؤلاء

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، يَعِيشُ الإنسَانُ هذهِ الحَيَاةَ الدُّنيَا في صِرَاعٍ دَائِمٍ، وفي مُعَانَاةٍ وجُهْدٍ وتَعَبٍ ونَصَبٍ، ولا رَاحَةَ لَهُ إلا عِندَ لِقَاءِ رَبِّهِ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾. يَعنِي: في تَعَبٍ، ونَكَدٍ، ومُعَانَاةٍ.

هذا الصِّرَاعُ والمُعَانَاةُ والتَّعَبُ والنَّصَبُ هوَ مُقتَضَى الابتِلاءِ الذي يُمَحِّصُ اللهُ تعالى بِهِ بَينَ المُؤمِنِينَ والمُنَافِقِينَ، وبَينَ الصَّادِقِينَ والكَاذِبِينَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، عِندَمَا يَفهَمُ الإنسَانُ هذهِ الحَقِيقَةَ، لا يَسَعُهُ إلا الصَّبْرُ والمُصَابَرَةُ حَتَّى يَفُوزَ بالفَوزِ العَظِيمِ، ويَكُونَ مِمَّن: ﴿زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾ ويُنَادَى عَلَيهِ باسمِهِ في أَرضِ المَحشَرِ: ألا إنَّ فُلانَ ابنَ فُلانٍ قَد سَعِدَ سَعَادَةً لا يَشقَى بَعدَهَا أَبَدَاً، عِندَ ذلكَ يَبْيَضُّ وَجْهُهُ، ويَأخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، ويُبَاهِي بِهذهِ الشَّهَادَةِ وبِكِتَابِهِ أَهلَ أَرضِ المَحشَرِ، ويَقُولُ لَهُم: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾.

عِندَ ذلكَ يُبَدِّلُهُ اللهُ تعالى عن عِيشَةِ الدُّنيَا التي هيَ عِيشَةُ تَعَبٍ ومُعَانَاةٍ ومُكَابَدَةٍ وابتِلاءٍ، عِيشَةُ صَبْرٍ على الطَّاعَةِ، وصَبْرٍ عن المَعصِيَةِ، وصَبْرٍ على المَصَائِبِ، بِعِيشَةٍ طَيِّبَةٍ رَاضِيَةٍ، قال تعالى: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾. ويُنَادَى عَلَيهِ على رُؤُوسِ الأَشهَادِ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.

شَتَّانَ مَا بَينَ المُنضَبِطِ والمُتَفَلِّتِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، شَتَّانَ مَا بَينَ المُنضَبِطِ والمُتَفَلِّتِ، ومَا بَينَ الصَّابِرِ والجَازِعِ، ومَا بَينَ الطَّائِعِ والعَاصِي، ومَا بَينَ الظَّالِمِ والمَظلُومِ، ومَا بَينَ القَاتِلِ بِغَيرِ حَقٍِّ والمَقتُولِ ظُلْمَاً، ومَا بَينَ السَّارِقِ والمَسْرُوقِ، ومَا بَينَ المُرَوِّعِ والمُرَوَّعِ، ومَا بَينَ المُصلِحِ والمُفسِدِ، ومَا بَينَ الدَّاعِي لإطْفَاءِ نَارِ الحَربِ والدَّاعِي لإشْعَالِهَا.

شَتَّانَ مَا بَينَ هؤلاءِ وهؤلاءِ، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾.

وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾. مُستَحِيلٌ وأَلفُ أَلفِ مُستَحِيلٍ، لأنَّهُ لو كَانَ، لَكَانَ ظُلْمَاً، والظُّلْمُ مُستَحِيلٌ على اللهِ تعالى، قال تعالى في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَن اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلَا تَظَالَمُوا». وقال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.

الحَيَاةُ لا تَنتَهِي عِندَ المَوتِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، كُونُوا على يَقِينٍ بأَنَّ الحَيَاةَ لا تَنتَهِي عِندَ المَوتِ، بل على العَكْسِ من ذلكَ، الحَيَاةُ تَبدَأُ بَعدَ المَوتِ، النَّاسُ نِيَامٌ، إذا مَاتُوا انتَبَهُوا ـ كَمَا قَالُوا ـ ولولا هذهِ الحَقِيقَةُ لَمَا قَالَ المُجرِمُ عِندَ سَكَرَاتِ المَوتِ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. ولولا هذهِ الحَقِيقَةُ لَمَا قَالَ طَاغِيَةُ البَشَرِ عِندَ سَكَرَاتِ المَوتِ: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. ولولا هذهِ الحَقِيقَةُ لَمَا قَالَ الذي عَاثَ في الأَرضِ فَسَادَاً عِندَ سَكَرَاتِ المَوتِ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا أَهلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ، لا تَحزَنُوا، ولا تَهِنُوا، وكُونُوا على يَقِينٍ بهذهِ الحَقِيقَةِ التي سَطَّرَهَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ في كِتَابِهِ المُحكَمِ، الذي لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ ولا مِن خَلْفِهِ، ألا وهيَ قَولُهُ جَلَّ جَلالُهُ وتَقَدَّسَتْ أَسمَاؤُهُ: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، كَم يَفرَحُ المُؤمِنُونَ المَظْلُومُونَ المَقْهُورُونَ بهذهِ الآيَةِ؟ لقد كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم يَقرَؤُونَهَا ويُكَرِّرُونَهَا ويَبكُونَ في لَيلِهِم حَتَّى الفَجْرِ.

ورَحِمَ اللهُ تعالى الفُضَيلَ بنَ عِيَاضٍ الذي كَانَ يُكَرٍِّرُ هذهِ الآيَةَ ويُرَدِّدُهَا من أَوَّلِ اللَّيلِ إلى آخِرِهِ، ثمَّ يَقُولُ: لَيتَ شِعرِي من أَيِّ الفَرِيقَينِ أَنتِ؟ مُخَاطِباً بِذَلِكَ نَفسَهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ، تَمَعَّنُوا هذهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.

يَا أَهلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ، صَبْرَاً، ولا تَهِنُوا، إنَّ عَيْنَ اللهِ تعالى يَقْظَى لا تَنَامُ، وأمَّا أَنتُم أَيُّهَا الظَّالِمُونَ، اِظلِمُوا مَا شِئْتُمْ، فإِنَّا مَظْلُومُونَ، وإِنَّا إلى اللهِ تعالى شَاكُونَ ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾. فلا بُدَّ من وَقْفَةٍ يَقِفُ فِيهَا الجَمِيعُ بَينَ يَدَيِ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى، فَطُوبَى للمَظْلُومِ، ويَا حَسْرَةً على الظَّالِمِ.

اللَّهُمَّ أَرِنَا عَجَائِبَ قُدْرَتِكَ في القَومِ الظَّالِمِينَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 28/محرم /1435هـ، الموافق: 21/تشرين الثاني/ 2014م