9ـ أشراط الساعة: أخذ الله شريطته من أهل الأرض

 

 أشراط الساعة

9ـ أخذ الله شريطته من أهل الأرض

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ ذَهَابُ الصَّالِحِينَ، والعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ العَامِلِينَ، وبَقَاءُ حُثَالَةٍ من النَّاسِ، لا يَأمُرُونَ بالمَعرُوفِ، ولا يَنهَونَ عن المُنكَرِ.

روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأْخُذَ اللهُ شَرِيطَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَبْقَى فِيهَا عَجَاجَةٌ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفاً، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَراً» الشَّرِيطَةُ: هُم أَهلُ الخَيرِ والدِّينِ؛ والعَجَاجُ: هُمُ الغَوغَائِيُّونَ والأَرذَالُ، ومن لا خَيرَ فِيهِم، هُمُ الرُّوَيبِضَةُ.

أيُّها الإخوة الكرام: من أَشرَاطِ السَّاعَةِ، ذَهَابُ الصَّالِحِينَ، وقِلَّةُ الأَخيَارِ، وكَثْرَةُ الأَشرَارِ، حَتَّى لا يَبقَى إلا شِرَارُ النَّاسِ، وهُمُ الذينَ تَقُومُ عَلَيهِمُ السَّاعَةُ.

إنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ مَرْبُوطٌ بالأَمْرِ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عن المُنكَرِ، فإذا زَالَ هذا الأَمرُ قَامَتِ السَّاعَةُ، روى الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُغَرْبَلُونَ فِيهِ غَرْبَلَةً، يَبْقَى مِنْهُمْ حُثَالَةٌ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا ـ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ـ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟

قَالَ: «تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ، وَتَدَعُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ».

مَتَى يَكُونُ ذَهَابُ الصَّالِحِينَ؟

أيُّها الإخوة الكرام: ذَهَابُ الصَّالِحِينَ، وقِلَّةُ الأَخيَارِ، وكَثْرَةُ الأَشرَارِ والفُجَّارِ، لا يَكُونُ إلا بِظُهُورِ المَعَاصِي والمُنكَرَاتِ، وعِندَ تَرْكِ الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عن المُنكَرِ، روى الشيخان عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللهُ عَنها، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ». ـ  وَعَقَدَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ عَشَرَةً ـ.

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟

قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ».

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الخَبَثَ قَد كَثُرَ في المُجتَمَعِ، ولم يَبْقَ مَسْتُورَاً، بل صَارَ ظَاهِرَاً عَلانِيَةً، وأَصبَحَ البَعضُ يَرَونَ المَعْرُوفَ مُنكَرَاً، والمُنكَرَ مَعْرُوفَاً، بل البَعضُ يَأمُرُ بالمُنكَرِ، ويَنهَى عن المَعْرُوفِ، لقد دَخَلَ الخَبَثُ مُعْظَمَ البُيُوتِ، وانتَشَرَ في شَوَارِعِ المُسلِمِينَ وأَسوَاقِهِم.

لقد كَانَ النَّاسُ في المَاضِي يَسْتَتِرُونَ إذا ارتَكَبُوا المَعَاصِي، كَانَ فِيهِم شَيءٌ من الحَيَاءِ، أمَّا اليَومَ فَقَد وَصَلَ الأَمرُ إلى المُجَاهَرَةِ بالخَبَثِ، ومن جَاهَرَ بالمَعَاصِي والمُنكَرَاتِ فَهُوَ بَعِيدٌ من رَحمَةِ اللهِ تعالى يَومَ القِيَامَةِ، روى الإمام البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافىً إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِن الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ».

الخَبَثُ الظَّاهِرُ في المُجتَمَعِ سَلَّابٌ للنِّعَمِ، جَلَّابٌ للنِّقَمِ.

ذَهَابُ الصَّالِحِينَ هَلاكٌ للمُجتَمَعِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ ذَهَابَ الصَّالِحِينَ وفَقْدَهُم من المُجتَمَعِ هَلاكٌ للمُجتَمَعِ، وسَبَبٌ لِذَهَابِ النِّعَمِ، وحُلُولِ النِّقَمِ، ومَا نَزَلَ بالأُمَّةِ من ذُلٍّ وهَوَانٍ وآلامٍ وشَدَائِدَ وهُمُومٍ وكُرُوبٍ إلا بِسَبَبِ قِلَّةِ الصَّالِحِينَ، وكَثْرَةِ الخَبَثِ.

لقد حُرِمَتِ الأُمَّةُ خَيرَ الصَّالِحِينَ المُصلِحِينَ، لقد حُرِمَتْ بَرَكَاتُهُم ودَعَوَاتُهُم، ومَا نَزَلَ في الأُمَّةِ مَا نَزَلَ إلا لِكَيْ يَعُودُوا إلى رُشْدِهِم، ويَرجِعُوا إلى صَوَابِهِم، ويَكُفُّوا عن نَشْرِ الخَبَثِ، وأن يَكُونَ عَوْنَاً لأهلِ الصَّلاحِ والإصلاحِ في الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عن المُنكَرِ، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: الصَّالِحُونَ عُمْلَةٌ نَادِرَةٌ، إذا لم يَعرِفِ النَّاسُ قَدْرَهُم، ولم يَأخُذُوا بِكَلامِهِم، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُبقِيهِم في هذهِ الدُّنيَا كَثِيرَاً، فَيَقبِضُهُم إِلَيهِ، لأنَّهُ يُحِبُّهُم، ولأنَّهُ أَعَدَّ لَهُم أَجْرَاً عَظِيمَاً، فإذا قَبَضَهُم رَبُّنَا عزَّ وجلَّ، لم يُبْقِ إلا شِرَارَ النَّاسِ الذينَ تَقُومُ عَلَيهِمُ السَّاعَةُ، روى الإمام البخاري عَنْ قَيْسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مِرْدَاساً الْأَسْلَمِيَّ يَقُولُ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ: يُقْبَضُ الصَّالِحُونَ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَتَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهِمْ شَيْئاً. الحُفَالَةُ والحُثَالَةُ شَيءٌ وَاحِدٌ، وهيَ الرَّدِيءُ من كُلِّ شَيءٍ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: سَبَبُ بَلاءِ المُسلِمِينَ في هذا العَصْرِ هوَ بُعْدُهُم عن العُلَمَاءِ العَامِلِينَ الرَّبَّانِيِّينَ، وبُعْدُهُم عن الصَّالِحِينَ المُصْلِحِينَ، وعن مَجَالِسِ الأَتقِيَاءِ والعَارِفِينَ.

بِأَهلِ الصَّلاحِ تُجْبَرُ الأُمَّةُ، وبِأَهلِ الصَّلاحِ تُنْصَرُ الأُمَّةُ، وبِأَهلِ الصَّلاحِ يُرْفَعُ البَلاءُ، وبِأَهلِ الصَّلاحِ يُغَاثُ العِبَادُ والبِلادُ، وبِأَهلِ الصَّلاحِ يُرْفَعُ البَلاءُ ويُسْعَدُ النَّاسُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لَيسَتِ الحَسْرَةُ على مَن مَاتَ من الصَّالِحِينَ، ولكنَّ الحَسْرَةَ على من لم يَستَغِلَّ وُجُودَ الصَّالِحِينَ، فالصَّالِحُونَ سُعَدَاءُ في حَيَاتِهِم، وسُعَدَاءُ في مَوْتِهِم، أَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟

فَقَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ»؟

أَلَمْ يَقُلِ المَولَى جَلَّ وعَلا: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾؟

أيُّها الإخوة الكرام: مَوْتُ الصَّالِحِينَ أو خُرُوجُهُم من بَلَدٍ (مَا) إِنذَارُ خَطَرٍ للأُمَّةِ، قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

اللَّهُمَّ ألْحِقْنَا بِعِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، ولا تَحْرِمْنَا بَرَكَتَهُم. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 18/صفر/1435هـ، الموافق: 10/كانون الأول / 2014م