10ـ أشراط الساعة: علو فسول الرجال على صالحيهم

 

 أشراط الساعة

10ـ علو فسول الرجال على صالحيهم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من علَامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي أَخبَرَ عَنهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أن تَجِدَ أَسَافِلَ النَّاسِ وأَرَاذِلَهُم وأَقَلَّهُم عِلْمَاً ودِينَاً يَرتَفِعُونَ، فَيَمْلِكُونَ زِمَامَ الأُمُورِ، ويُسَيطِرُونَ على النَّاسِ، ويَتَأَمَّرُونَ عَلَيهِم.

من علَامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، رَفْعُ اللَّئِيمِ، حَيثُ تَكُونُ لَهُ المَكَانَةُ عِندَ النَّاسِ، وعُلُوُّ الوَضِيعِ فَيَكُونُ الآمِرَ النَّاهِي، ورَفْعُ الأَشرَارِ، وَوَضْعُ الأَخيَارِ وعِلْيَةِ القَومِ، فلا تَكُونُ لَهُمُ المَنزِلَةُ الرَّفِيعَةُ عِندَ النَّاسِ، ومَا ذَاكَ إلا لأنَّ النَّاسَ غَلَبَ عَلَيهِم حُبُّ الدُّنيَا، والتَّعَلُّقُ بالمَادَّةِ، فانقَلَبَتِ المَوَازِينُ عِندَهُم.

«الحَسَبُ المَالُ، والكَرَمُ التَّقوَى»:

 أيُّها الإخوة الكرام:  الدُّنيَا غَرَّارَةٌ، بِهَا ضَلَّ من ضَلَّ، وبِمَكْرِهَا زَلَّ من زَلَّ، وحُبُّهَا رَأْسُ الخَطَايَا والسَّيِّئَاتِ، وبُغْضُهَا والزُّهْدُ فِيهَا رَأْسُ الـطَّـاعَـاتِ والقُرُبَـاتِ والمُنجِيَـاتِ، وهيَ حَـقِـيرَةٌ لا تُسَاوِي عِندَ اللهِ شَيئَاً، قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

وأَخرَجَ الترمذي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ».

أيُّها الإخوة الكرام: الدُّنيَا سَبَبُ الزَّيغِ والضَّلالِ، روى ابن ماجه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَقْرَ وَنَتَخَوَّفُهُ.

فَقَالَ: «أَالْفَقْرَ تَخَافُونَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُصَبَّنَّ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا صَبَّاً، حَتَّى لَا يُزِيغَ قَلْبَ أَحَدِكُمْ إِزَاغَةً إِلَّا هِيهْ، وَايْمُ اللهِ، لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ».

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: صَدَقَ واللهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، تَرَكَنَا واللهِ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ.

وفي هذا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ بِشَارَةٌ للأُمَّةِ بِأَنَّ اللهَ سَيُغنِيهِم من بَعْدِ فَقْرِهِم، ولكِنَّهُ يُحَذِّرُهُم من هذا الغِنَى الذي يُنسِي العِبَادَ عِبَادَةَ رَبِّهِم، فلا يَزَالُ حُبُّ الدُّنيَا بِهِم حَتَّى تَزِيغَ القُلُوبُ بَعْدَ استِقَامَتِهَا، وتَضِلُّ بَعْدَ هُدَاهَا، وتَكُونُ الدُّنيَا سَبَبَ فِتْنَتِهِم، وبِسَبَبِهَا تَمِيلُ القُلُوبُ، وتَزِيغُ عن الحَقِّ.

هذهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا بِحَقَارَتِهَا صَارَت هيَ المِعيَارَ والمِقيَاسَ الذي يُقَاسُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ، فمن كَانَ غَنِيَّاً فهوَ المُقَدَّمُ المَرفُوعُ، ولو كَانَ لُكَعَ ابنَ لُكَعٍ، ومن كَانَ فَقِيرَاً فهوَ الوَضِيعُ المُتَأَخِّرُ، وإنْ كَانَ من أَعلَمِ وأَعبَدِ وأَزهَدِ أَهلِ الأَرضِ.

وصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إذْ يَقُولُ: «إِنَّ أَحْسَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَالُ» رواه الإمام أحمد والحاكم عن عَبْدِ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ويَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى» رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. يَعنِي: الفَقِيرُ ذُو الحَسَبِ لا يُوَقَّرُ، ولا يُحتَفَلُ بِهِ، ومن لا حَسَبَ لَهُ إذا صَارَ غَنِيَّاً جُلَّ في أَعيُنِ النَّاسِ؛ وأمَّا عِندَ اللهِ تعالى الكَرَمُ التَّقْوَى، فلا كَرَمَ إلا بالتَّقْوَى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

ويَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَلا أُرَاهُمَا إِلا مُهْلِكَاكُمْ» رواه الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ويَقُولُ بِشْرُ الحَافِي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قُلْ لمن طَلَبَ الدُّنيَا: تَهَيَّأْ للذُّلِّ.

«أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ»:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد طَغَتِ الدُّنيَا والمَادِّيَّاتُ على الرُّوحَانِيَّاتِ، وتَفَشَّتْ بَينَ النَّاسِ الأًَنَانِيَّةُ والحِقْدُ، وصَارَ أَسعَدَ النَّاسِ بالدُّنيَا لُكَعُ ابنُ لُكَعٍ، وهَذا مَن عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ.

رَوَى الإِمَامُ أَحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى تَصِيرَ لِلُكَعِ ابْنِ لُكَعٍ».

وروى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوسَطِ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مِن أَشرَاطِ السَّاعَةِ أَن يَغلِبَ عَلَى الدُّنيَا لُكَعُ ابنُ لُكَعٍ، فَخَيرُ النَّاسِ يَومَئِذٍ مُؤمِنٌ بَينَ كَرِيمَينِ» اللُّكَعُ: اللَّئِيمُ الصَّغِيرُ في العِلْمِ والعَقْلِ.

فإذا كَانَتِ الدُّنيَا لهؤلاءِ كَانُوا أَسعَدَ النَّاسِ بِهَا، وهُمُ المَرفُوعُونَ فِيهَا عِندَ أَهلِهَا، روى الإمام أحمد والترمذي عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ».

يَعلُو التَّحُوتُ الوُعُولَ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ من أَشرَاطِ السَّاعَةِ أنْ تَرَى الوُعُولَ الذينَ هُم أَشرَافُ النَّاسِ وَوُجَهَاؤُهُم يَعلُو عَلَيهِمُ التُّحُوتُ الذينَ كَانُوا تَحتَ أَقدَامِ النَّاسِ، كَمَا حَدَّثَ بذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأَوسَطِ عن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ من أَشرَاطِ السَّاعَةِ أَن يَظهَرَ الشُّحُّ، والفُحْشُ، وَيُؤتَمَنَ الخَائِنُ، وَيُخَوَّنَ الأَمِينُ، وَيَظهَرَ ثِيَابٌ يَلبَسُهَا نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، وَيَعلُو التُّحُوتُ الوُعُولَ».

وفي رِوَايَةٍ: أَكَذَاكَ يَا عَبدَ اللهِ بنَ مَسْعُودٍ سَمِعْتَهُ من حِبِّي؟

قَالَ: نَعَم، وَرَبِّ الكَعبَةِ.

قُلنَا: وما التُّحُوتُ؟

قَالَ: فُسُولُ الرِّجَالِ، وَأَهلُ البُيُوتِ الغَامِضَةِ، يُرفَعُونَ فَوقَ صَالِحِيهِم.

والوُعُولُ: أَهلُ البُيُوتِ الصَّالِحَةِ.

وفُسُولُ الرِّجَالِ: هُمُ الغَشَشَةُ الضُّلَّالُ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام:إذا عَلا أَهلُ الدُّنيَا على أًَهلِ الدِّينِ، وعَلا فُسُولُ الرِّجَالِ أَهلُ البُيُوتِ الغَامِضَةِ على الصَّالِحِينَ أَهلِ البُيُوتِ الصَّالِحَةِ، فَسَدَ نِظَامُ الدُّنيَا، وهذا من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا حَدَّثَ بذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عن ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يَسُودَ كُلَّ قَبِيلَةٍ مُنَافِقُوهَا».

وروى الحاكم عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «من اقتِرَابِ السَّاعَةِ أَنْ تُرْفَعَ الأَشْرَارُ، وَتُوضَعَ الأَخْيَارُ، وَيُفتَحَ الْقَوْلُ، وَيُخْزَنَ الْعَمَلُ، وَيُقرَأَ بالقَومِ الْمَثْنَاةُ لَيسَ فِيهِم أَحَدٌ يُنكِرُهَا»

قِيلَ: وَمَا الْمَثْنَاةُ؟

قَالَ: «مَا اكتُتِبَتْ سِوَى كِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ».

أيُّها الإخوة الكرام: لقد ظَهَرَت هذهِ العَلامَةُ، ومَا زَالَت، فَصَارَ العِلْمُ جَهْلاً، والجَهلُ عِلْمَاً، وانقَلَبَتِ الحَقَائِقُ، وَرُفِعَ الأَشرَارُ، وَوُضِعَ الأَخيَارُ، وصَارَ أَسعَدَ النَّاسِ بالدُّنيَا اللُّكَعُ ابنُ اللُّكَعِ، اللَّئِيمُ ابنُ اللَّئِيمِ، الشِّرِّيرُ ابنُ الشِّرِّيرِ، الفَاجِرُ ابنُ الفَاجِرِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، وإلى اللهِ المُشتَكَى.

اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا من شَرِّ الأَشرَارِ، ومن كَيْدِ الفُجَّارِ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 2/ربيع الأول /1436هـ، الموافق: 24/كانون الأول / 2014م