416ـ خطبة الجمعة: رسول كريم, إذا وعد وفى, وإذا توعد تجاوز وعفا (1)

 

 416ـ خطبة الجمعة: رسول كريم، إذا وعد وفى، وإذا توعد تجاوز وعفا (1)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، لقد أَظَلَّنَا شَهْرٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ، شَهْرُ رَبِيعٍ الأَوَّلِ الأَنوَرِ، الذي وُلِدَ فِيهِ الحَبِيبُ المُصطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي امتَلأَتِ القُلُوبُ حُبَّاً وشَوقَاً لَهُ، الذي تَشتَاقُ قُلُوبُ المُؤمِنِينَ لِرُؤيَتِهِ، الذي بِسِيرَتِهِ العَطِرَةِ تَلِينُ الأَفئِدَةُ وتَحِنُّ.

كَيفَ لا، وهوَ الذي هَدَانَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِهِ، وهوَ الذي عَلَّمَنَا من عِلْمِهِ الذي عَلَّمَهُ اللهُ تعالى إِيَّاهُ، فَأَخرَجَنَا من الجَهَالَةِ إلى العِلْمِ، وبَصَّرَنَا بِهِ من العَمَى، وأَخرَجَنَا بِدَعْوَتِهِ من الظُّلُمَات إلى النُّورِ.

كَيفَ لا، وقد اصطَفَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ على النَّاسِ جَمِيعَاً، فَجَعَلَهُ سَيِّدَ الخَلْقِ، وحَبِيبَ الحَقِّ، وأَكرَمَ النَّاسِ وأَحَبَّهُم إلى اللهِ تعالى.

كَيفَ لا، وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الأَنبِيَاءِ، وصَفْوَةُ الأَولِيَاءِ، صَاحِبُ المَقَامِ المَحْمُودِ، واللِّوَاءِ المَعْقُودِ، والحَوْضِ المَوْرُودِ، إِمَامُ المُتَّقِينَ، وسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ أَجمَعِينَ.

كَيفَ لا، والعَبدُ لا يُؤمِنُ إلا بالشَّهَادَةِ لَهُ بالرِّسَالَةِ، وحَتَّى يَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ من وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ والنَّاسِ أَجمَعِينَ.

«جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ»:

يَا عِبَادَ اللهِ، مَعَ هذهِ المَنزِلَةِ الرَّفِيعَةِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومَعَ هذهِ المَكَانَةِ العَظِيمَةِ عِندَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، يَأبَى الذينَ امتَلأَتْ قُلُوبُهُم بُغْضَاً وحِقْدَاً وحَسَدَاً إلا أن يَتَعَرَّضُوا لِمَقَامِهِ الشَّرِيفِ بالقَدْحِ والافتِرَاءِ، من جُملَةِ القَدْحِ والافتِرَاءِ، يَقُولُونَ: جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وأَصحَابُهُ لِتَدْمِيرِ العَالَمِ، فَهُم قَتَلَةٌ بِلا رَحمَةٍ ولا شَفَقَةٍ، يَقُولُونَ: لقد جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالإِرهَابِ والذَّبْحِ، ولا أَدَلَّ على ذلكَ من قَولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ» رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

يَا عِبَادَ اللهِ، أَقبَحُ شَيءٍ في الإِنسَانِ أن يَطْعَنَ في دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وذلكَ من خِلالِ عَمَلِيَّاتِ البَتْرِ في الآيَاتِ والأَحَادِيثِ.

لَقَد عَمِيَ هؤلاءِ، بل تَعَامَوْا عن قَولِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. لَقَد تَعَامَوْا عن قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحمَةٌ مُهْدَاةٌ» رواه الحاكم عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

لَقَد تَعَامَوْا عن وَصْفِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: بِأنَّهُ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً، فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمَ بِهَا للهِ. رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

بل قد تَعَامَى هؤلاءِ عن قَولِهِ تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾. جَمِيعَاً يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

بل صَاحِبُ القَلْبِ الحَقُودِ الحَسُودِ المُبغِضِ، لا يَعرِفُ بأَنَّ الكَرِيمَ إذا وَعَدَ وَفَى، وإذا تَوَعَّدَ تَجَاوَزَ وعَفَا.

يَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِندَمَا غَمَزَتْهُ قُرَيشٌ مَرَّاتٍ ومَرَّاتٍ، وهوَ يَطُوفُ بالكَعبَةِ، وهوَ صَابِرٌ على أَذَاهُم؛ ولكنْ عِندَمَا اشتَدَّ الإِيذَاءُ، ومَنَعُوهُ من تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وطَعَنُوا فِيهِ وغَمَزُوهُ، قَالَ لَهُم: «جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ» وهذا وَعِيدٌ مِنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ في المُصْلِحِ أن يَعِدَ وأن يَتَوَعَّدَ.

كَرِيمٌ، إذا وَعَدَ وَفَى، وإذا تَوَعَّدَ تَجَاوَزَ وعَفَا:

يَا عِبَادَ اللهِ، سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَرِيمٌ، مُرْسَلٌ من قِبَلِ رَبٍّ كَرِيمٍ، سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَحِيمٌ، مُرْسَلٌ من قِبَلِ رَبٍّ رَحِيمٍ.

نَعَم، لَقَد قَالَ للقَومِ: «جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ» ولكن انظُرُوا في سِيرَتِهِ العَطِرَةِ، اُنظُرُوا في حَيَاتِهِ العَظِيمَةِ، اُنظُرُوا في الرَّحمَةِ المُهْدَاةِ، الذي تَوَعَّدَ القَومَ بالذَّبْحِ، ماذا صَنَعَ؟

يَومُ الطَّائِفِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، يَومُ الطَّائِفِ كَانَ يَوماً عَصِيباً على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِيذَاءٌ مَا بَعْدَهُ إِيذَاءٌ، فَجَاءَهُ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ، ومَعَهُ مَلَكُ الجِبَالِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

فَقَالَ لَهُ مَلَكُ الجِبَالِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ. وهذا الحَدِيثُ رَوَاهُ الإمام البخاري.

فماذا كَانَ الجَوَابُ مِنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ»؟ لَقَد كَانَ الجَوَابُ مِنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَروِيهِ الإمام البخاري: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً».

سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَعظَمَكَ، مَا أَحلَمَكَ، مَا أَكرَمَكَ، لو أَذِنتَ لِمَلَكِ الجِبَالِ بأَن يُطبِقَ عَلَيهِمُ الجَبَلَينِ، ماذا سَتَكُونُ النَّتِيجَةُ؟ مَا أَصْدَقَكَ يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ عِندَمَا قُلتَ: «إِنَّمَا أَنَا رَحمَةٌ مُهْدَاةٌ» ومَا أَكذَبَهُم عِندَمَا قَالُوا عَنكَ مَا قَالُوا ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، لَقَد تَوَعَّدَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولكن تَجَاوَزَ وعَفَا.

يَومُ أُحُدٍ:

يَا عِبَادَ اللهِ، أمَّا يَومُ أُحُدٍ، فَهُوَ يَومٌ عَصِيبٌ كَانَ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَد وَقَعَ في حُفْرَةٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، وشُجَّ وَجْهُهُ الشَّرِيفُ، ودَخَلَتْ حَلَقَتَا المِغفَرِ في وَجْنَتِهِ الشَّرِيفَةِ، فَشَقَّ ذلكَ على أَصحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ عَلَيهِم.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي طَعَّانَاً ولا لَعَّانَاً، ولكن بَعَثَنِي دَاعِيَةً وَرَحمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُم لا يَعلَمُونَ» رواه البيهقي عَن عَبدِ اللهِ بنِ عُبَيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَعظَمَكَ، مَا أَحلَمَكَ، مَا أَكرَمَكَ، لو أَنَّكَ دَعَوتَ عَلَيهِم، ماذا سَتَكُونُ النَّتِيجَةُ؟ مَا أَصْدَقَكَ يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ عِندَمَا قُلتَ: «إِنَّمَا أَنَا رَحمَةٌ مُهْدَاةٌ» ومَا أَكذَبَهُم عِندَمَا قَالُوا عَنكَ مَا قَالُوا ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، لَقَد تَوَعَّدَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولكن تَجَاوَزَ وعَفَا.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، نَحنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى قِرَاءَةِ سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأن نَقرَأَهَا لِمَن يَلُوذُ بِنَا، وللمُسلِمِينَ عَامَّةً، حَتَّى لا يَقَعُوا في شِرَاكِ أَعدَاءِ هذهِ الأُمَّةِ، فَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيُّ الرَّأفَةِ والرَّحمَةِ، إذا وَعَدَ وَفَى، وإذا تَوَعَّدَ تَجَاوَزَ وعَفَا، جَزَاهُ اللهُ تعالى عَنَّا خَيرَ مَا جَزَى نَبِيَّاً عن أُمَّتِهِ، وَوَفَّقَنَا اللهُ تعالى للتَّخَلُّقِ بِأَخلاقِهِ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 4/ربيع الأول /1435هـ، الموافق: 26/كانون الأول / 2014م