11ـ أشراط الساعة: تضييع الأمانة

 

 أشراط الساعة

11ـ تضييع الأمانة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي أَخبَرَ عَنهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَتْ، ومَا زَالَتْ مُستَمِرَّةً إلى يَومِنَا هذا، وَسَوفَ تَستَمِرُّ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، تَضْيِيعُ الأَمَانَةِ.

روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟

فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ.

فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ.

حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَن السَّاعَةِ؟».

قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟

قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

الأَمَانَةُ من الأَخلاقِ الحَمِيدَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الأَمَانَةَ من الأَخلاقِ الحَمِيدَةِ، ومن مَكَارِمِ الأَخلاقِ التي دَعَا إِلَيهَا دِينُنَا الحَنِيفُ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾.

وروى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَن ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».

أيُّها الإخوة الكرام: خُلُقُ الأَمَانَةِ خُلُقٌ مَجِيدٌ، وصِفَةٌ أَكِيدَةٌ، يَجِبُ أن يَتَحَقَّقَ فِيهَا كُلُّ رَاعٍ من الرُّعَاةِ، وكُلُّنَا رُعَاةٌ، لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه الشيخان عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

يَجِبُ على كُلِّ رَاعٍ أن يَكُونَ صَادِقَاً مُخلِصَاً مَعَ رَعِيَّتِهِ التي اسْتَرعَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَيهَا، وأن يُؤَدِّيَ الأَمَانَةَ لأَصحَابِهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَيهِ أن يَكُونَ مُتَّصِفَاً بالقُوَّةِ، لأنَّ الأَمِينَ يَجِبُ أن يَكُونَ قَوِيَّاً، ومن تَحَقَّقَتْ فِيهِ صِفَةُ الأَمَانَةِ والقُوَّةِ كَانَ هوَ المَحْبُوبَ عِندَ اللهِ تعالى، وعِندَ العِبَادِ، وهوَ المَطْلُوبُ عِندَ الكُمَّلِ من النَّاسِ، كَمَا ذَكَرَ اللهُ تعالى في قَوْلِ إِحدَى ابنَتَيْ سَيِّدِنَا شُعَيبٍ عن سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيهِما السَّلامُ: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾.

الأَمَانَةُ تَشْمَلُ الأُمُورَ المَعنَوِيَّةَ والحِسِّيَّةَ:

أيُّها الإخوة الكرام: الأَمَانَةُ التي أَمَرَ اللهُ تعالى بِأَدَائِهَا لَيسَتْ مَقْصُورَةً على حِفْظِ الأَشيَاءِ المَادِّيَّةِ فَحَسْبُ، بل هيَ أَشمَلُ وأَعَمُّ من ذلكَ، فَهِيَ تَشْمَلُ الأُمُورَ الحِسِّيَّةَ والمَعنَوِيَّةَ.

العَدْلُ بَينَ أَفرَادِ الرَّعِيَّةِ من الأَمَانَةِ.

العَدْلُ بَينَ الأَولادِ من الأَمَانَةِ.

العَدْلُ بَينَ الزَّوجَاتِ من الأَمَانَةِ.

وَقَوْلُ كَلِمَةِ الحَقِّ حَيثُمَا كُنتَ من الأَمَانَةِ.

وَالمُحَافَظَةُ على أَموَالِ النَّاسِ وأَعرَاضِهِم من الأَمَانَةِ.

وَالمُحَافَظَةُ على أَخلاقِ العِبَادِ من الأَمَانَةِ.

وَحِفْظُ الدِّينِ بِكُلِّ مَا فِيهِ من الأَوَامِرِ والزَّوَاجِرِ هوَ من الأَمَانَةِ التي اسْتَرعَانَا اللهُ عزَّ وجلَّ إِيَّاهَا، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾.

ضَيَاعُ الأَمَانَةِ لَيسَتْ في عَصْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ ضَيَاعَ الأَمَانَةِ مَا كَانَ في زَمَنِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا هذا وَقَعَ فِيمَا بَعدُ، لأنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قد شَهِدَ لمن كَانَ في عَصْرِهِ بالخَيرِيَّةِ.

روى الشيخان عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ـ قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً ـ.

ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْماً يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ». أي: يَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ بِالتَّوَسُّعِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ؛ وقِيلَ: كَثْرَةُ اللَّحْمِ.

رَفْعُ الأَمَانَةِ على مَرَاحِلَ:

أيُّها الإخوة الكرام: عِندَمَا كَانَ رَفْعُ الأَمَانَةِ من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، فإنَّ رَفْعَهَا لا يَكُونُ دُفْعَةً وَاحِدَةً من قُلُوبِ النَّاسِ، ولا تُرفَعُ فَجْأَةً، إِنَّمَا تُرفَعُ على مَرَاحِلَ مُتَعَدِّدَةٍ، حَيثُ تَقِلُّ شَيئَاً فَشَيئَاً، حَتَّى تَزُولَ بالكُلِّيَّةِ والعِيَاذُ باللهِ تعالى.

روى الإمام البخاري عن حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ـ أَيْ: فِي أَصْلِ قُلُوبِهِمْ ـ ثُمَّ عَلِمُوا مِن الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِن السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ـ الْأَثَرُ فِي الشَّيْءِ كَالنُّقْطَةِ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ ـ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ ـ هُوَ أَثَرُ الْعَمَلِ فِي الْكَفِّ؛ قَالَ فِي الْفَائِقِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَكْتِ وَالْمَجْلِ، أَنَّ الْوَكْتَ النُّقْطَةُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ، والمجل غِلَظُ الْجِلْدِ مِنْ الْعَمَلِ لَا غَيْرُ ـ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ ـ قَلَّبْتَهُ وَدَوَّرْتَهُ ـ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ ـ ارْتَفَعَ مَوْضِعُهُ ـ فَتَرَاهُ مُنْتَبِراً ـ مُنْتَفِخاً ـ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلاً أَمِيناً، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ».

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: الأَمَانَةُ خُلُقِ الإِنسَانِ المُؤمِنِ، والخِيَانَةُ صِفَةُ الإِنسَانِ المُنَافِقِ، روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ».

من أَقبَحِ صِفَاتِ المُجتَمَعِ أن يُخَوَّنَ الأَمِينُ، ويُؤتَمَنَ الخَائِنُ، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ».

قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟

قَالَ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».

أَسأَلُ اللهَ تعالى أن نَكُونَ من أَهلِ الأَمَانَةِ، وأن يُمِيتَنَا على أَدَاءِ الأَمَانَةِ لأَهلِهَا. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 9/ربيع الأول /1436هـ، الموافق: 31/كانون الأول / 2014م