417ـ خطبة الجمعة: رسول كريم, إذا وعد وفى, وإذا توعد تجاوز وعفا (2)

 

 417ـ خطبة الجمعة: رسول كريم، إذا وعد وفى، وإذا توعد تجاوز وعفا (2)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، من عَرَفَ حَقِيقَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من خِلالِ القُرآنِ العَظِيمِ، والسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، فَإِنَّهُ يَشتَاقُ لِرُؤيَةِ وَجْهِهِ الأَغَرِّ، ولِسَمَاعِ صَوْتِهِ العَذْبِ المُنَوَّرِ، ويَرجُو أن يَلمَسَ كَفَّهُ النَّدِيَّ الأَطْهَرَ، ويَشَمَّ مِنهُ رَائِحَةَ المِسْكِ الأَذْفَرِ، ويَتَحَقَّقَ فِيهِ قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ زَمَانٌ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

كَيفَ لا يَكُونُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ كذلكَ عِندَ المُؤمِنِ، وهوَ قد عَلِمَ حَقِيقَةَ هذا الحَبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَحمَةٌ للعَالَمِينَ في الدُّنيَا، ورَحمَةٌ للمُؤمِنِينَ في البَرزَخِ، ورَحمَةٌ للنَّاسِ أَجمَعِينَ يَومَ القِيَامَةِ، لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ العُظْمَى للخَلْقِ أَجمَعِينَ.

كَيفَ لِعَاقِلٍ أن يَفتَرِيَ؟

يَا عِبَادَ اللهِ، هذهِ هيَ حَقِيقَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَاءَتْ في القُرآنِ العَظِيمِ، والسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وجَاءَتْ سِيرَتُهُ العَطِرَةُ مُصَدِّقَةً لما جَاءَ في القُرآنِ والسُّنَّةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، كَيفَ لِعَاقِلٍ، بل لمن كَانَ فِيهِ شَيءٌ من الخَيرِ والخُلُقِ، أن يَفتَرِيَ على سَيِّدِ البَشَرِ، الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى خَيرَ سَبَبٍ لِرَحمَةِ النَّاسِ وهِدَايَتِهِم، وإِخرَاجِهِم من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، ومن الجَوْرِ والجَهْلِ والطُّغيَانِ إلى نُورِ العَدْلِ والعِلْمِ والإِيمَانِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، كَيفَ لِعَاقِلٍ أن يَفتَرِيَ على سَيِّدِ البَشَرِ، فَيَقُولَ: إنَّ مُحَمَّدَاً وصَحْبَهُ وهذا الدِّينَ الذي جَاءَ بِهِ هوَ دِينُ إِرهَابٍ وقَتْلٍ، وإِنَّهُ وأَتبَاعَهُ كَانُوا مُتَعَطِّشِينَ للدِّمَاءِ؟ ويَستَدِلُّونَ لذلكَ بِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «جِئْتُكُمْ بالذَّبْحِ».

الكَرِيمُ إذا وَعَدَ وَفَى، وإذا تَوَعَّدَ تَجَاوَزَ وعَفَا:

يَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ الافتِرَاءَ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من شَأنِ اللِّئَامِ، لا من شَأنِ الكِرَامِ، لأنَّ الكِرَامَ إذا وَعَدُوا وَفَوْا، وإذا تَوَعَّدُوا تَجَاوَزُوا وعَفَوْا، أمَّا اللِّئَامُ إذا وَعَدُوا أَخلَفُوا، وإذا تَوَعَّدُوا تَجَاوَزُوا وظَلَمُوا.

يَا عِبَادَ اللهِ، اُنظُرُوا في سِيرَةِ مَن أَرسَلَهُ اللهُ تعالى رَحمَةً للعَالَمِينَ، والذي قَالَ مُنْذِرَاً ومُتَوَعِّدَاً ـ وهوَ الكَرِيمُ ـ: «جِئْتُكُمْ بالذَّبْحِ». لِتَجِدُوا سِيرَتَهُ العَطِرَةَ مَلِيئَةً بالعَفْوِ والصَّفْحِ والتَّجَاوُزِ عن كُلِّ من أَسَاءَ إِلَيهِ.

أَسْرَى بَدْرٍ:

يَا عِبَادَ اللهِ، اُنظُرُوا في سِيرَةِ مَن قَالَ لِقُرَيشٍ: «جِئْتُكُمْ بالذَّبْحِ». عِندَمَا وَقَعَ بَعْضُهُم في الأَسْرِ يَومَ بَدْرٍ، ماذا قَالَ لأَصحَابِهِ الكِرَامِ في حَقِّ هؤلاءِ الأَسْرَى الذينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُم؟

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ بِإِسنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ أَبِي عَزِيزِ بن عُمَيْرٍ، أَخِي مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي الأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالأَسَارَى خَيْراً».

وَكُنْتُ فِي نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ أَكَلُوا التَّمْرَ وَأَطْعَمُونِي الْخُبْزَ بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ.

يَا عِبَادَ اللهِ، هَل مَوقِفُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هذا من الأَسْرَى الذينَ كَانُوا يُحَارِبُونَهُ دَلِيلٌ على أَنَّهُ نَبِيُّ الرَّحمَةِ، أم أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُم بالذَّبْحِ؟ إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الكَرِيمُ الجَوَادُ الذي إذا تَوَعَّدَ تَجَاوَزَ وعَفَا.

هَل هذا الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي أَوصَى أَصحَابَهُ بالأَسْرَى يُوصَفُ بالإِرهَابِ والدَّمَوِيِّ وحُبِّ القَتْلِ، أم أَنَّهُ وَصْفُ مُجْرِمِي مُدَّعِي الإِنسَانِيَّةِ والرَّحمَةِ في هذا العَصْرِ، الذينَ تَعرِفُونَ حَقَّ المَعرِفَةِ كَيفَ يُعَامِلُونَ الأَسْرَى.

يَا عِبَادَ اللهِ، قُولُوا لهؤلاءِ الذينَ أَجرَمُوا في حَقِّ رَسُولِ الإِنسَانِيَّةِ: لماذا لم يَذْبَحِ الأَسْرَى يَومَ بَدْرٍ؟ بل قَبِلَ مِنهُمُ الفِدَاءَ، وأَطلَقَ سَرَاحَهُم، لأنَّهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ مَا خُيِّرَ بَينَ أَمرَينِ إلا اختَارَ أَيسَرَهُمَا، فاختَارَ الفِدَاءَ على القَتْلِ.

يَومُ الفَتْحِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، اُنظُرُوا في سِيرَةِ مَن قَالَ لِقُرَيشٍ: «جِئْتُكُمْ بالذَّبْحِ». عِندَمَا دَخَلَ مَكَّةً فَاتِحَاً.

روى الإمام البخاري عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا ـ يَعنِي أَبَا سُفيَانَ ـ قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟

قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ، عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، مَعَهُ الرَّايَةُ.

فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ.

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ، حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ، ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ، وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ، فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ.

فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟

قَالَ: «مَا قَالَ؟».

قَالَ: كَذَا وَكَذَا.

فَقَالَ: «كَذَبَ سَعْدٌ ـ أي: أَخطَأَ، بِلُغَةِ أَهلِ الحِجَازِ ـ وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ».

وعِندَ أَهلِ المَغَازِي قَالَ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمَ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشاً.

ونَزَعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ من سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، وأَعطَاهَا إلى وَلَدِهِ قَيْسٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ، هَل عَرَفنَا سِيرَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ وهَل عَرَفنَا كَذِبَ وادِّعَاءَ مُدَّعِي الرَّحمَةِ والإِنسَانِيَّةِ اليَومَ؟

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ بَعدَ الفَتْحِ مُنتَصِرَاً، وجَمَعَ قُرَيشَاً، وهُم يَتَوَقَّعُونَ القَتْلَ لما فَعَلُوا بِهِ وبِأَصحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وأَرضَاهُم، وأَعلَنَ العَفْوَ العَامَّ عَنهُم، وعَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُم كُلِّيَّاً، مَعَ نِسيَانِ المَاضِي، فَقَالَ لَهُم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟».

قَالُوا: خَيْراً، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.

قَالَ: «اِذْهَبُوا، فَأَنْتُمُ الطّلَقَاءُ» رواه البيهقي.

ولهذا سَمَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هذا اليَومَ يَومَ المَرحَمَةِ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، مَعرِفَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَرْضٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ، وخَاصَّةً في هذهِ الآوِنَةِ، حَيثُ كَثُرَ الطَّعْنُ في شَخْصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، رَسُولُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي قَالَ لِقُرَيشٍ: «جِئْتُكُمْ بالذَّبْحِ». مَا قَتَلَ إلا رَجُلاً وَاحِدَاً مُشْرِكَاً خَبِيثَاً، وهوَ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ، وقَتَلَ أَصْحَابُهُ الكِرَامُ من المُشْرِكِينَ من خِلالِ سَبْعٍ وعِشْرِينَ غَزوَةً، وخَمْسٍ وثَلاثِينَ سَرِيَّةً أَلفَاً واثنَينِ وعِشرِينَ من المُشْرِكِينَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا عَرَفَتِ البَشَرِيَّةُ أَرحَمَ مِنهُ، ومن شَاءَ فَلْيَقْرَأْ سِيرَتَهُ العَطِرَةَ، ولِذَا وَجَبَ على كُلِّ مُسْلِمٍ أن يَهتَدِيَ بِهَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فالرَّاحِمُونَ يَرحَمُهُمُ الرَّحمنُ، ولا تُنزَعُ الرَّحمَةُ إلا من شَقِيٍّ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 11/ربيع الأول /1436هـ، الموافق: 2/كانون الثاني/ 2015م