29ـ دروس رمضانية 1435هـ: (الأمور بخواتيمها)

 

 29ـ دروس رمضانية 1435هـ: (الأمور بخواتيمها)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ من أَعظَمِ الخُسرَانِ أن يَرجِعَ الإنسَانُ بَعدَ الغَنِيمَةِ خَاسِرَاً، إنَّ من أَعظَمِ الخُسرَانِ المَعصِيَةَ بَعدَ الطَّاعَةِ، إنَّ من أَعظَمِ الخُسرَانِ هَجْرَ بُيُوتِ اللهِ عزَّ وجلَّ بَعدَ عِمَارَتِهَا، إنَّ من أَعظَمِ الخُسرَانِ هَجْرَ تِلاوَةِ القُرآنِ العَظِيمِ بَعدَ تِلاوَتِهِ، إنَّ من أَعظَمِ الخُسرَانِ النَّظَرَ إلى النِّسَاءِ الأَجنَبِيَّاتِ بَعدَ غَضِّ البَصَرِ، إنَّ من أَعظَمِ الخُسرَانِ أَكْلَ الحَرَامِ بَعدَ أَكْلِ الحَلالِ، إنَّ من أَعظَمِ الخُسرَانِ الإعرَاضَ عن اللهِ تعالى بَعدَ الإقبَالِ.

أيُّها الإخوة الكرام: هَا هوَ شَهرُ رَمَضَانَ آذَنَ بالرَّحِيلِ، فهل بَعدَ رَحِيلِهِ نَبقَى على العَهْدِ، أم نَنكُثُ العَهْدَ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى؟

أَوفُوا بِعَهْدِ اللهِ تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: الكَثِيرُ مِنَّا عَقَدَ العَزمَ بِقَلبِهِ في شَهرِ رَمَضَانَ على تَرْكِ كَثِيرٍ من المُنكَرَاتِ، وعَقَدَ العَزمِ على فِعلِ الطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ، فهل يَفِي هؤلاءِ بالعَهْدِ أم لا؟

أيُّها الإخوة الكرام: تَذَكَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾. وقَولَهُ تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾. وقَولَهُ تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. وقَولَهُ تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: شَأنُ المُؤمِنِ الصَّادِقِ أن يَلتَزِمَ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾. هذا شَأنُ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ، أمَّا المُنَافِقُونَ فقد قال اللهُ تعالى فِيهِم: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: حَافِظُوا على العُهُودِ والمَوَاثِيقِ التي قَطَعتُمُوهَا بَينَكُم وبَينَ اللهِ تعالى، روى الإمام أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اضْمَنُوا لِي سِتَّاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ، اُصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ».

أيُّها الإخوة الكرام: من أَوفَى بِعَهْدِ اللهِ الذي عَاهَدَهُ عَلَيهِ، وَفَّقَهُ اللهُ تعالى للطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ، وتَرْكِ المَعَاصِي والمُنكَرَاتِ.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ﴾:

أيُّها الإخوة الكرام: هَا هوَ شَهرُ رَمَضَانَ يُوَدِّعُ العِبَادَ في أَيَّامِهِ الأَخِيرَةِ، لقد شَهِدَ هذا الشَّهرُ لأقوَامٍ بأَنَّهُم صَامُوا حَقَّ الصِّيَامِ، وقَامُوا حَقَّ القِيَامِ، وشَهِدَ على أقوَامٍ أَنَّهُم أَعرَضُوا كُلَّ الإعرَاضِ عن اللهِ تعالى، فهل يا تُرَى هؤلاءِ الذينَ صَامُوا حَقَّ الصِّيَامِ، وقَامُوا حَقَّ القِيَامِ، يَرتَدُّونَ على أَدبَارِهِم بَعدَ أَيَّامِ رَمَضَانَ؟

أيُّها الإخوة الكرام: هَنَاكَ شَرِيحَةٌ من النَّاسِ يَلعَبُ بِهِمُ الشَّيطَانُ، إذا رَآهُم أَقبَلُوا على اللهِ تعالى أَغرَاهُم بالعَودَةِ إلى المَعَاصِي والمُنكَرَاتِ، وما ذاكَ إلا لِيُحبِطَ أَعمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ، فَكُونُوا على حَذَرٍ من الشَّيطَانِ بَعدَ شَهرِ رَمَضَانَ، لأنَّ الشَّيطَانَ امتَلأَ غَيظَاً مِمَّن أَقبَلَ على اللهِ تعالى، وخَاصَّةً في شَهرِ رَمَضَانَ، لأنَّهُ كَانَ مَحبُوسَاً من أَجلِ هذا المُؤمِنِ، وبَعدَ رَمَضَانَ سَيَعُودُ إلى هذا الإنسَانِ، فهل سَنَكُونُ على حَذَرٍ مِنهُ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: حَرَامٌ عَلَينَا أن نَرجِعَ إلى الذَّنبِ بَعدَ الطَّاعَةِ، وأن نَرجِعَ إلى العِصيَانِ وانتِهَاكِ الحُرُمَاتِ والتَّعَدِّي على حُدُودِ اللهِ تعالى بَعدَ أن وَفَّقَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ للابتِعَادِ عَنهَا.

أيُّها الإخوة الكرام: لا تَنظُرُوا إلى صِغَرِ الذَّنبِ،  ولكن انظُرُوا إلى عِظَمِ الرَّبِّ جَلَّ وعَلَا، ولا تَكُونُوا مِمَّن قال اللهُ تعالى فِيهِم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾. لِنَحذَرْ من الرِّدَّةِ إلى المَعصِيَةِ بَعدَ الطَّاعَةِ، ولنُجَاهِدْ أنفُسَنَا حتَّى نَلقَى اللهَ تعالى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

الأُمُورُ بِخَوَاتِيمِهَا:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد شَرَحَ اللهُ صُدُورَنَا للصِّيَامِ وللقِيَامِ، وحُرِمَ هذا غَيرُنَا، فَلنُحَافِظْ على هذهِ النِّعمَةِ إلى نِهَايَةِ الأَجَلِ، لأنَّ المُعَوَّلَ عَلَيهِ هوَ الخَاتِمَةُ، لا تَفرَحْ للطَّاعَةِ، ولكن افرَحْ للاستِقَامَةِ، لأنَّ اللهَ تعالى قَالَ: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: روى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِناً وَيَحْيَا مُؤْمِناً وَيَمُوتُ مُؤْمِناً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِراً وَيَحْيَا كَافِراً وَيَمُوتُ كَافِراً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِناً وَيَحْيَا مُؤْمِناً وَيَمُوتُ كَافِراً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِراً وَيَحْيَا كَافِراً وَيَمُوتُ مُؤْمِناً».

ولهذا أَكَّدَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على سَيِّدِنَا حَارِثَةَ عِندَمَا سَأَلَهُ: كَيفَ أَصبَحتَ؟

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ الهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟».

قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِناً حَقَّاً.

فَقَالَ: «اُنْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟».

فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وأَظمَأتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزاً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ ـ يَرفَعُونَ أَصوَاتَهُم بالصُّرَاخِ والعَوِيلِ ـ فِيهَا.

فَقَالَ: «يَا حَارِثَةُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ» ـ ثَلاثًا ـ

وفي رِوَايَةِ البَيهقِيِّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَبصَرتَ فَالزَمْ ـ مَرَّتَينِ ـ عَبدٌ نَوَّرَ اللهُ الإيمانَ في قَلبِهِ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد مَنَّ اللهُ تعالى عَلَينَا في شَهرِ رَمَضَانَ، فَكُنَّا بإذنِ اللهِ تعالى مُندَرِجِينَ تَحتَ قَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾.

تَكفِينَا هذهِ الشَّهَادَةُ من اللهِ تعالى، فلا نَكُنْ بَعدَ شَهرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ مِمَّن قَالَ اللهُ تعالى فِيهِم: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّاً﴾.

أَسأَلُ اللهَ تعالى أن يُثَبِّتَنَا بالقَولِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيا والآخِرَةِ، وأن نَكُونَ من الرِّجَالِ الذينَ صَدَقُوا ما عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 29/ رمضان/1435هـ، الموافق: 27/تموز / 2014م