92ـ كلمة شهر شوال 1435هـ: (إن كنت حليماً كن عفوَّاً)

 

 92ـ كلمة شهر شوال 1435هـ: (إن كنت حليماً كن عفوَّاً)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: الحِلمُ من أَشرَفِ الأخلاقِ التي يَتَحَلَّى بِهَا الإنسَانُ المُؤمِنُ، ومن أَوجَبِ ما يَتَحَلَّى بِهِ ذَوُوا الأَلبَابِ، لما في الحِلمِ من سَلامَةِ العِرضِ، ورَاحَةِ الجَسَدِ، واستِجلابِ الحَمدِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لَيسَ الحَلِيمُ من ظُلِمَ فَحَلُمَ حتَّى إذا قَدَرَ انتَقَمَ، ولكنَّ الحَلِيمَ من ظُلِمَ فَحَلُمَ حتَّى إذا قَدَرَ عَفَا.

وكَانَ يَقُولُ الإمامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

يُخَاطِبُنِي السَّفِيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ   ***   فَـأَكـرَهُ أن أَكُـونَ لَهُ مُجِيبَاً

يَـزِيدُ سَـفَاهَةً فَأَزِيدُ حِلمَاً   ***   كَعُودٍ زَادَهُ الإِحرَاقُ طِيبَاً

حِلمُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: صِفَةُ الحِلمِ تُكسِبُ العَبدَ مَحَبَّةَ اللهِ تعالى ورِضوَانَهُ، وهيَ دَلِيلٌ على كَمَالِ العَقلِ، وسَعَةِ الصَّدْرِ، وامتِلاكِ النَّفسِ، وبالحِلمِ تَتَآلَفُ القُلُوبُ، وتَنتَشِرُ المَحَبَّةُ بَينَ النَّاسِ، ويَزُولُ البُغضُ، ويُمنَعُ الحَسَدُ، وتَمِيلُ القُلُوبُ، وصَاحِبُ الحِلمِ يَستَحِقُّ الدَّرَجَاتِ العُلَى من الجَنَّةِ، والقُربَ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، والجَزَاءَ الأَوفَى من اللهِ تعالى.

يا صَاحِبَ الابتِلاءِ، يا صَاحِبَ المِحَنِ والشَّدَائِدِ، كُنْ حَلِيمَاً، حتَّى تُمكِنُكَ الفُرصَةُ، فإذا أمكَنَتْكَ الفُرصَةُ فَعَلَيكَ بالصَّفْحِ والإفضَالِ، لأنَّهُ من كَانَ حَلِيمَاً كَانَ عَفُوَّاً إذا قَدَرَ.

هذا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُجَسِّدُ لَنَا هذهِ الصُّورَةَ من خِلالِ سِيرَتِهِ العَطِرَةِ.

روى الشيخان ـ واللَّفظُ للبخاري ـ عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟

قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمُ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ؟».

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً».

أيُّها الإخوة الكرام: تَعلَمُونَ لمَّا جَاءَ سَيِّدُنَا جِبرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ مَعَ مَلَكِ الجِبَالِ، لأنَّهُ دَعَا بِدُعَاءٍ رَقِيقٍ يُبكِي القُلُوبَ، حَيثُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي؛ اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي؛ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي؛ غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ؛ وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك؛ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك؛ لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى؛ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ» رواه الطَّبَرَانِيُّ عن عَبدِ اللهِ بنِ جَعفَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما.

بماذا أَجَابَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَلَكَ الجِبَالِ؟ أَجَابَهُ بِقَولِهِ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً». كَفكَفَ دُمُوعَهُ، عِندَمَا اطمَأَنَّ قَلبُهُ بأنَّ ما جَرَى لَيسَ غَضَبَاً من اللهِ تعالى، بل لِحِكمَةٍ أَرَادَهَا اللهُ تعالى، فَعَفَا، بل رَجَا اللهَ تعالى أن يُخرِجَ من أَصلابِهِم مُوَحِّدَاً.

إنْ أَرَدتَ العَفوَ فَاعفُ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَلِيمَاً، وعِندَمَا قَدِرَ كَانَ عَفُوَّاً، لذلكَ رَجَا أن يُخرِجَ اللهُ تعالى من أَصلابِ القَومِ من يُوَحِّدُ اللهَ تعالى، وعِندَمَا وَقَفَ وَقفَةَ الفَاتِحِ يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ، قَالَ لمن آذَوهُ، وهوَ قَادِرٌ على الانتِقَامِ، بَعدَ أن كَانَ حَلِيمَاً عَلَيهِم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَظُنُونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟».

قَالُوا: خَيْراً، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.

قَالَ: «فَإِنّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ اِذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ». كَذَا في زَادِ المَعَادِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لماذا فَعَلَ هكذا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ الأُمَّةَ، وخَاصَّةً إنْ صَادَفَت لَيلَةَ القَدْرِ أن تَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنِّي.

أيُّها الإخوة الكرام: من كَانَ صَادِقَاً في طَلَبِ العَفوِ من اللهِ تعالى القَدِيرِ، لا يَسَعُهُ إلا أن يَستَجِيبَ لأوَامِرِ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

فإن أَرَدتَ العَفوَ من اللهِ تعالى، فَاعفُ عَمَّن أَسَاءَ إلَيكَ، وخَاصَّةً بَعدَ المَقدِرَةِ.

من كَانَ لَهُ عِندَ اللهِ شَيءٌ فَليَقُمْ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد خَرَجنَا من شَهرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ، ونَحنُ نَسأَلُهُ تعالى أن يَعفُوَ عَنَّا، وأن يُعتِقَ رِقَابَنَا من النَّارِ، فإن كُنَّا جَادِّينَ في ذلكَ وصَادِقِينَ فَليَعفُ بَعضُنَا على بَعضٍ، وليَصفَحْ بَعضُنَا على بَعضٍ، رَجَاءَ العَفوِ عَنَّا من اللهِ تعالى.

يَقُولُ سَيِّدُنَا أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: بَلَغَنَا أنَّ اللهَ تعالى يَأمُرُ مُنَادِيَاً يَومَ القِيَامَةِ فَيُنَادِي: مَن كَانَ لَهُ عِندَ اللهِ شَيءٌ فَليَقُمْ، فَيَقُومُ أَهلُ العَفوِ؛ فَيُكَافِئُهُمُ اللهُ بما كَانَ من عَفوِهِم عن النَّاسِ.

العَفوُ خَيرٌ من القِصَاصِ:

أيُّها الإخوة الكرام: رَبُّنَا عزَّ جلَّ شَرَعَ لَنَا القِصَاصَ، ورَغَّبَنَا بالعَفوِ، فقالَ تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا باللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾.

جَاءَ رَجُلٌ إلى سَيِّدِنَا عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَجَعَلَ يَشكُو إلَيهِ رَجُلاً ظَلَمَهُ ويَقَعُ فِيهِ.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إنَّكَ أَن تَلقَى اللهَ ومَظلَمَتُكَ كما هيَ، خَيرٌ لَكَ من أن تَلقَاهُ وقد اقتَصَصْتَهَا.

لأنَّكَ إذا اقتَصَصْتَ لم يَبقَ لَكَ حَقٌّ عِندَهُ يَومَ القِيَامَةِ، ولكن إذا عَفَوتَ كَانَ عَفوُ اللهِ عَنكَ أعظَمَ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: الحِلمُ صِفَةُ العُقَلاءِ، والعَفوُ صِفَةُ الصِّدِّيقِينَ، فيا من صُمتُمْ وقُمتُمْ في شَهرِ رَمَضَانَ، اِسمَعُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه ابنُ حِبَّانَ عن عَمرِو بنِ مُرَّةَ الجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيتَ إنْ شَهِدتُ أنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ، وأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وصَلَّيتُ الصَّلَوَاتِ الخَمسِ، وأَدَّيتُ الزَّكَاةَ، وصُمتُ رَمَضَانَ وقُمتُهُ، فَمِمَّن أَنَا؟

قَالَ: «من الصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ».

وصِفَةُ الصِّدِّيقِينَ الحِلمُ والعَفوُ.

اللَّهُمَّ أَكرِمنَا بذلكَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 1/ شوال /1435هـ، الموافق: 28/تموز / 2014م